mohannadbari

الحدث التوراتي بين منهجين: السوّاح ناقداً الصليبي*

مهند عبد الباري – كاتب وناشط سياسي /فلسطين

المقدمة:

تشكل قراءة التاريخ الفلسطيني القديم معضلة حقيقية لدى الباحثين كما لدى القرّاء عموماً، إذ يصطدم القارئ بعشرات الكتابات التي تُقدّم تصورات متباينة لتسلسل الأحداث التي وقعت على أرض الجغرافيا الفلسطينية قديماً. ونظراً لأن الحاضر الفلسطيني يشهد صراعاً محموماً سياسياً وأيديولوجياً، فقد لعبت البنى الفاعلة فيه دوراً حاسماً تجسّد في إعادة بناء هذا التصورات، لا سيّما الاستعمار الصهيوني الذي اتكأ منذ نشأته على مزعم الوجود التاريخي قبل نحو ثلاثة آلاف عام؛ وذلك من أجل تثبيت روايات ونقض أخرى في سبيل التأسيس لشرعية راهنة. بيد أن التحوّل الحاسم الذي شهده عِلما الآثار والتاريخ والنتائج التي أفضيا إليها أسسا لبناء تصور جديد للتاريخ الفلسطيني القديم أكثر موثوقية ويستند إلى البيّنات التاريخية والأثرية؛ ما أدى إلى إسقاط تاريخية الرواية التوراتية وإزاحتها إلى المجال الديني الصرف.

جاءت دراسة المؤرخ اللبناني كمال الصليبي حول الأصل العسيري للتوراة في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” الصادر في العام 1985، لتكرّس الطابع التاريخي للرواية التوراتية، وذلك بعد أن نزعت حلقات التاريخ المستندة إلى علوم الآثار الطابع التاريخي عنها. وفي حين اختار الصليبي عسير غرب الجزيرة العربية مسرحاً لأحداث هذه الرواية إثر تطبيق منهج المقابلة اللغوية، فقد صدرت إسهامات عربية لاحقة اتخذت ذات المنهج الذي أفضى بها لاختيار جغرافية اليمن، فيما اختار آخرون غامد أو السراة.

الباحث السوري في الميثولوجيا وتاريخ الأديان فراس السوّاح تصدّى في كتابه “الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم” إلى مقاربة الصليبي، حيث اعتبر أن كتابه “بمثابة الفصل المفقود في كتاب الصليبي، والذي يختبر نتائج المقاربة اللغوية بواسطة مناهج أخرى” (السوّاح، 1999)، مشدداً على أنه يأتي في سياق الدفاع عن منهج علمي في دراسة التاريخ. وتُعدُّ أطروحة السوّاح تأسيسية في هذا المجال، إذ أنه لا يفنّد منهج الصليبي القائم على المقابلة اللغوية في دارسة المسائل التاريخية والنتائج المتمخضة عنها فحسب، بل يتعدى ذلك لرسم جغرافية فلسطين وسورية وفق ما توصلت إليه علوم التاريخ والآثار الحديثة، قاطعاً الطريق على جميع المساهمات اللغوية أحادية الجانب التي تدعو إلى نقل أرض كنعان إلى شبه الجزيرة العربية تارة وإلى اليمن تارة أخرى، ومؤكداً على مركزية المنهج العلمي التاريخي المستند إلى المكتشفات الأثرية في دراسة المسائل التاريخية.

حول جدوى علوم الآثار في فلسطين

بقيت الرواية التوراتية في إطار المجال اللاهوتي الديني إلى أن جاء البحث الأكاديمي الغربي في القرن التاسع عشر وكرسها كرواية تاريخية، لا سيّما مع إيزاك ماركوس يوست، وليوبولد فون رانكة، وهاينريخ غريتس وغيرهم. وأرجع الباحث شلومو ساند ذلك إلى صعود الخطاب القومي في أوروبا الغربية، حيث ارتبط تعريف اليهودية العصرية القومية في ذلك الوقت بالتمسّك بالكتاب المقدّس اليهودي كتاريخ، وذلك لأن هذا الكتاب يسمح بتوفير أصل مشترك لـمفهوم “الشعب”. (ساند، 2010). كما أرجع السوّاح ذلك إلى سببين رئيسيين الأول النزعة الدينية المحافظة في الأصولية المسيحية التي تتبنى التوراة كنص مقدّس، والثاني الظروف التي أحاطت بنشوء البحث الأثري في فلسطين. (السوّاح، 2003) حيث انطلق التنقيب الأثري في فلسطين العام 1865، مع تشكيل هيئة بريطانية أطلق عليها اسم صندوق التنقيب في فلسطين برعاية الملكة فيكتوريا، ورئاسة أعلى مرجع ديني في المملكة، وقد هدف هذا الصندوق على حد وصف بيان التأسيس إلى “التحري الدقيق والمنهجي لآثار طوبوغرافية وجيولوجية وعادات وتقاليد الأرض المقدسة، من أجل توضيح مسائل الكتاب المقدس”، واستعملت الرواية التوراتية كمرشد تاريخي لعملية البحث الأثري في فلسطين، وذلك في ظل غياب الرواية الفلسطينية المستقلة عن الرواية التوراتية، إضافة إلى طبيعة فصول الرواية التوراتية التي بدت وكأنها تمنح تتابعاً تاريخياً لجغرافية المنطقة، فضلاً على ذلك فإن الجهات التي موّلت هذه الحملات يغلب عليها الطابع اللاهوتي الديني، بما في ذلك الفترة التي انتقلت فيها رعاية البعثات الأثرية إلى كبرى الجامعات الأوروبية والأمريكية، حيث ترافق ذلك مع صعود الصهيونية التي سعت إلى شرعنة رؤيتها الاستعمارية في فلسطين، وبذلك أخضعت نتائج البحث الأثري لتوجهات تلك البعثات، وجرى ربط المكتشفات الأثرية بشكل متعسف بإسرائيل التوراتية. بيد أن النصف الثاني من القرن العشرين شهد صعود تيار أثري نقدي للرواية التوراتية، يعمل على استقراء الوثائق الأثرية والتاريخية بعيداً عن الأفكار المسبقة. وقد سمحت نتائج البحث الأثري التي أجرتها الباحثة البريطانية كاثلين كينون وما تلاها من جهود بحثية، ببناء تاريخ للشرق القديم مستقل عن الرواية التوراتية، وذلك بإجراء تقاطعات لتلك المكتشفات الأثرية مع سجلات الشرق القديم القادمة من مصر والعراق وسورية، وهو الأمر الذي كشف عن استحالة المطابقة بين الواقع الأثري في فلسطين وبين الرواية التوراتية كما وردت في النصوص التوراتية، نازعاً عنها طابعها التاريخي وناقلاً إياها للمجال الديني الصرف. كما أسهم في بناء تصور جديد لنشوء الدين اليهودي في السنوات التالية على السبي البابلي، والذي شهد كتابة نص تأصيلي للمجتمع الجديد في القدس الفلسطينية بالاستعانة بتراث الشعوب التي قطنت المنطقة. (السوّاح، 2003).

بالدليل المادي أثبتت هذه النتائج جدوى البحث التاريخي القائم على البيّنة الأثرية والتاريخية، إذ أن تراكم جهود الباحثين الجدّيين استطاع أن يقلب التصوّر المهيمن لتاريخ فلسطين القديمة بشكل كامل، ساداً الباب أمام كل محاولة لقراءة الرواية التوراتية بوصفها كتاب تاريخي لشعب يدعى إسرائيل، ليس بالرغم من هيمنة الرواية التوراتية على التاريخ الديني اليهودي- المسيحي فحسب، بل وراهنية الاستعمار الصهيوني في فلسطين الذي يتخذ من الرواية التوراتية موطئ قدم أو شكلاً من أشكال الشرعية، إضافة إلى ذلك الهجمات الصهيونية على كل محاولة نقدية تمسُّ خطابه الاستعماري.

الأصل العسيري: رواية معلّقة في السماء

جاءت نظرية المؤرخ كمال الصليبي بالصدفة البحتة، هكذا يقول، حين تفاجأ بالتطابق بين أسماء المناطق في غرب الجزيرة العربية وبين أسماء مواقع توراتية عالقة في رأسه. وإذ ينطلق الصليبي من مسلّمة أن التوراة العبرية سجل كامل بالغ الدقة والتفاصيل لبني إسرائيل، فقد انصب اشتغاله على البحث عن جغرافيتها. ويقوم منهجه على “المقابلة اللغوية بين أسماء الأماكن المضبوطة في التوراة بالحرف العبري، وأسماء أماكن تاريخية أو حالية في جنوب الحجاز وفي بلاد عسير” (الصليبي،1997). وقد نسج إثر ذلك رواية حول الانتقال الآمن للنص العبري بصيغته الساكنة من كتبته الأوائل إلى يومنا هذا مع بعض الانحرافات في التشكيل الصوتي، وذلك عبر سرد مجموعة من التكهنات المعلّقة في السماء والتي لا تجد لها أقداماً تقف عليها.

وتقوم روايته على أن الانتشار المبكر لليهودية في فلسطين والشام اتبع مسار القوافل التجارية، الذي تعزز بفعل الحروب المضطردة بين يهوذا وسامرة عسير، حيث أطلقوا بعض أسماء مدنهم الأصلية على المناطق التي هاجروا إليها، وهذا ما يفسّر بالنسبة إليه ظهور بعض الأسماء التوراتية في الشام وفلسطين. وتعاظم وجود هذه الجماعات التي أصبحت فلسطين مركزها في الوقت الذي شهد انهيار مجتمع بني إسرائيل في عسير. أما لوثة النسيان لبلد النشأة في عسير خلال فترة قصيرة زمنياً (مئتين أو ثلاثمئة سنة) التي تشكل الحلقة الأهم في روايته، وتمجيد فلسطين بدلاً عنها، فيردّها الصليبي إلى الانهيار الاقتصادي الناتج عن التحوّل في مسالك التجارة إلى الشمال السوري في الحقبة الفارسية. ورافق ذلك تحوّل لغوي أصاب الشرق القديم، حيث انمحقت لغات مثل العبرية العسيرية بحلول القرن السادس قبل الميلاد وسادت الآرامية، في حين حلّت لاحقاً اللغة العربية مع القرون الأولى من العصر المسيحي في معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية، إضافة إلى العراق والشام. وطالما أن كتب اليهودية المقدسة كتبت بالعبرية، باستثناء بعض الفقرات في كتب الأنبياء المتأخرين التي كتبت بالآرامية، فقد لجأ يهود فلسطين وبابل إلى تصويت (إضافة حركات صوتية) كتبهم بطريقتهم الخاصة المتأثرة باللغتين العربية والآرامية، وذلك دون أن يجدوا من يقوّم محاولتهم من عبرانيي عسير البائدة. وقد تكرّس حضور الجغرافية الفلسطينية مع الصعود السياسي لليهود فيها مع تأسيس دولة المكابيين (142 ق.م – 63 ق.م)، ولئن جاء القرن الميلادي الأول حتى دخل الأصل العسيري في غياهب النسيان. خلال الفترة الممتدة بين القرنين السادس والعاشر الميلادي اشتغلت جماعة عرفت بالمسوّرين في فلسطين على تحقيق وتدقيق النصوص التوراتية بالأحرف الساكنة، لكنهم “أدخلوا الحركات والضوابط عليها بصورة اعتباطية في أحيان كثيرة، مما غيّر إعراب الجمل وحوّر المعاني،” (الصليبي: 1997)، ويعتقد الصليبي أن أسماء الأماكن بنصّها العبري غير المصوّت قد وصلتنا دون أن يطالها التحريف تقريباً. وقد كرَّس الصليبي جهوده من أجل فهم النص العبري في صيغته الساكنة، مهملاً نص المسوّرين، معتبراً أن هذه الجهود أدت إلى فهم جديد لمقاطع توراتية عديدة، وذلك بالإضافة إلى نقل جغرافية الحدث التوراتي إلى عسير.

مزالق المقابلة اللغوية:

أسفرت مقاربة الصليبي عن إشكالات خطيرة على مستويي المنهج والنتائج، وذلك بمعزل عن النوايا التي حملها. فقد عالج مسألة تاريخية بحتة بمنهج لغوي غير تاريخي، كما أعاد بناء علم الآثار على أساس لغوي، إذ افترض أن منهج المقابلة اللغوية هو ضرب من علم الآثار، بل ربما يتفوق عليه، حيث اعتقد أن “الاكتشافات الأثرية خرساء، ما لم تتضمن كتابات منقوشة، في حين أن الأسماء ناطقة … وفي حين أن أسماء الأماكن لا تقدم معلومات بحجم ما تقدمه الاكتشافات الأثرية، فإن المعلومات التي تقدمها هذه الأسماء فضيلة اليقين المطلق أو النسبي” (الصليبي،1997).

إضافة إلى ما ورد فقد اعتمد الصليبي على نتائج علوم الآثار بشكل انتقائي، مختاراً منها نماذج شاذة لتأييد مقاربته، مثل سجل حملة شيشانق الفرعوني، حتى وإن كان هذا السجل إشكالياً وثمة مكتشفات أثرية عُثر عليها في موقع “مجدّو” في فلسطين وفي “جبيل” في لبنان ترجّح أن حملة شيشانق كانت نحو سوريا وفلسطين وليس عسير. (السوّاح: 1999). ففي الوقت الذي برر الصليبي رفضه لجغرافية فلسطين بغياب المكتشفات الأثرية المتطابقة مع الرواية التوراة، فإنه نقل جغرافية التوراة إلى عسير التي لم تستكشف أثرياً! (السوّاح، 1999).

وبتسليم الصليبي بصحة التوراة العبرية كاملةً اقترب من التيار التوراتي اللاهوتي الذي يعتقد بأن التوراة هي كلمة الله المنزّلة، حاسماً السجال الدائر بين الباحثين التاريخيين والأثريين واللاهوتيين حول تاريخية التوراة لمصلحتها، ومجافياً الدراسات التاريخية والأثرية الراهنة التي أزاحت الرواية التوراتية من المجال التاريخي إلى المجال الديني الصرف. (السوّاح، 1999).

كما أحال الصليبي التوراة إلى مفتاح التاريخ الذي تقرأ نصوص الشرق القديم القادمة من مصر والعراق وسورية بأكملها بناء عليه، مشككاً في وثائق الشرق القديم التي تجافي مقاربته، معتبراً أنها “أجبرت على إعطاء مؤشرات جغرافية وتاريخية تتوافق مع الأحكام المسبقة لدى الباحثين التوراتيين،” (الصليبي،1997)، مسقطاً بذلك جهود علماء اللغات القديمة، وضارباً عرض الحائط شبكة المعلومات المتماسكة التي وصل إليها علم التاريخ استناداً إلى وثائق الشرق القديم (السوّاح، 1999).

وأدى نقله للحدث التوراتي إلى عسير إلى أن “ينقل معه كل مواطن الشعوب التي تشابكت أخبارها في الرواية التوراتية. وبما أن هذه الشعوب موجودة تاريخياً وأثرياً بأسمائها ومواطنها في منطقة مصر والهلال الخصيب، فقد عمل على إيجاد مثائلها في غرب العربية.” (السوّاح، 1999). ورسم خريطة لجغرافية الشعوب المزعومة في عسير بطريقة مثيرة للدهشة، ساعياً لمطابقة أسماء هذه الشعوب مع أسماء مواقع في عسير دون الالتفات إلى أهمية التواصل الجغرافي لمدن المملكة الواحدة، بحيث يعوزها الناظم الجغرافي وتبدو مبعثرة وكأن لا رابط يجمعها.

وإذ كان مؤدّى مقاربة الصليبي أن التوحيد ظهر مع بني إسرائيل في عسير، فإن ذلك يخالف منطق التطور التاريخي وشروطه المجتمعية والاقتصادية والسياسية، وقوانين الحراك الاجتماعي، إذ أن التوحيد بوصفه ظاهرة تاريخية يظهر في المجتمعات المركزية التي استطاعت أن تفرز بناء اجتماعي ينزع نحو سيادة إله واحد يرعى مصالح الطبقات السائدة ودولتها الإمبراطورية، وهو ما كان ممتنعاً مع قبائل مجتمع بني إسرائيل المزعوم في عسير. (القمني، 1998).

 كذلك لجأ الصليبي إلى آيات قرآنية وانتقى منها بعض المواضع التي أشارت إلى اليهود والأماكن التي تواجدوا فيها، في محاولة متعثّرة لمطابقتها مع أسماء أماكن في شبه جزيرة العرب، دون أن يعطي بالاً للافتراق الزمني الهائل بين الحدثين القرآني والتوراتي، أو طبيعة النص الديني الإشكالية، ناقلاً نفسه من البحث في المجال التاريخي إلى المجال الديني.

نتائج الصليبي في ميزان علوم التاريخ والآثار:

في سعيه لنقد النتائج التي تمخضت عنها مقاربة الصليبي في أطروحته المذكورة أعلاه، أرجع السوّاح تلك النتائج من خرائط ومسارات لحملات عسكرية وغيرها، إلى سياق النص التوراتي ذاته، حيث تحرّى إمكانية مطابقة ذلك النص بالدلالات الجديدة التي منحها إياه الصليبي، مع الجغرافية العسيرية المزعومة. كما أخضع تلك النتائج إلى سجلات التاريخ القادمة من العراق ومصر وسورية، مفصلاً سجلات الحضارتين الفرعونية والآشورية بحسب تتابعها الزمني، ومبيّناً مسارات حملاتهم العسكرية في سورية وفلسطين، حيث تطابقت السجلات الآشورية والفرعونية والسورية مؤيدة أن جغرافية الرواية التوراتية هي في بلاد الشام وليس في عسير. كذلك عرض نتائج الكشوفات الأثرية في سوريا وفلسطين (أورشليم ومجدو وحاصور وجازر وعكا وبيت شميش وصور وعرقتا وجبيل وغيرها) التي تتقاطع مع السجلات التاريخية للحضارات القديمة والرواية التوراتية، راصداً تقاطعات أثرية وكتابية تؤكد أن المجال الذي تدور فيه هذه السجلات هو شمال الشرق الأدنى بين نهري النيل والفرات وليس عسير، وذلك بغرض كشف التناقض الكامن في خارطة الصليبي وفضح التحريف الذي أدت إليه المقاربة اللغوية التي حمّلت عسير تاريخاً لا تحتمله.

وقد استعرض السواح الترجمات اليونانية للتوراة وتواريخ إنجازها وتسلسلها إلينا من مصادر عبرية مختلفة، معرّفاً بمخطوطات قمران التوراتية التي عثر عليها في كهوف شمال البحر الميت في فلسطين، وذلك بغرض تقويض مقولة الصليبي عن موت اللغة التوراتية اعتباراً من القرن الخامس قبل الميلاد، وتفنيد أن ذلك أدى إلى نسيان جغرافية الحدث التوراتي، باعتبارها نتيجة تمخضت عنها. فإذا كان أقدم نص توراتي من نصوص قمران يرجع إلى نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وأقدم ترجمة ذات أصل مستقل، وهي السبعونية، ترجع إلى أواسط القرن الثالث قبل الميلاد، أي بعد قرنين فقط من بناء نحميا لسور أورشليم بعد العودة من السبي كما تزعم الرواية التوراتية، وقرنين ونصف من إعادة بناء الهيكل على يد زُربابل، فكيف تَسنّى لهؤلاء نسيان مسرح الحدث التوراتي في غرب العربية، خلال هذا الوقت القصير جداً. (السوّاح، 1999)

ويلجأ السوّاح في رحلته لضرب آخر ما تبقى من مقاربة الصليبي إلى المؤرخين الإغريق الذين كتبوا عن مناطق الشرق القديم واصفين عادات أهلها ودينهم وطقوسهم، حيث لم يأتوا على ذكر يهوذا عسير إطلاقاً، رغم أنهم أشاروا إلى شعوب اليمن. وتكرر ذلك مع الإخباريين العرب الذين لم يقدّموا أية معلومة تشير إلى قيام دولة سليمان ودولتي يهوذا وإسرائيل في شبه جزيرة العرب.

على سبيل الختام: حول مصداقية الحدث التوراتي في فلسطين

أن تدور الرواية التوراتية حول جغرافية فلسطين وما حولها فإن ذلك لا يعني أن الرواية صحيحة تاريخياً أو أنها جرت على أرض الواقع. حيث توصلت نتائج البحوث الأثرية والتاريخية في فلسطين إلى نفي رواية ما عرف بعهد الآباء من ابتداءً من الأب الأول إبراهيم وانتهاء بيوسف بن يعقوب، كذلك استحالة الوجود التاريخي لمملكتي داوود وسليمان التوراتيتين في القرن العاشر قبل الميلاد في الهضاب الفلسطينية، ونفي العلاقة بين مملكتي السامرة- إسرائيل ويهوذا الفلسطينيتين وبين الممالك الوارد وصفها في أسفار التوراة. في الوقت ذاته فإن عدم تاريخية الرواية التوراتية لا يمنح أحداً ترف نقل جغرافيتها إلى موقع آخر دونما الاستناد إلى منهج تاريخي يستند إلى علوم الآثار في المقاربة وشواهد أثرية وكتابية يمكن الركون إليها. وقد كان مؤدّى تطابق سجلات الشرق القديم والمواقع الأثرية في الشام وفلسطين، وهي ذات أسماء المواقع المستخدمة في الرواية التوراتية، إلى تكوين تصوّر للتاريخ يعتبر أن الرواية التوراتية هي رواية أصول قومية-إثنية كتبها كهنة أورشليم الفلسطينية حول تاريخ جغرافية أورشليم بالتحديد، ما بين أواخر القرن السادس والقرن الثاني قبل الميلاد، بالاستناد إلى مخيّلة رحبة من الخرافات والقصص الشعبية، حيث رسموا خط نسب نبيل يوصلهم بالأسباط الإثني عشر صعوداً إلى إبراهيم، وخطوط نسب فرعية توصل إلى بقية الشعوب القريبة من عهد توثيق التوراة هذا من جانب، ومن جانب آخر أن “الإله الواحد، الذي بشّر به كهنوت يهوذا بعد السبي البابلي، هو ذاته، الذي بشّر به موسى بين بني إسرائيل في مصر، وهو الذي خاطب إبراهيم أول مرة في حاران وأقام معه العهد ومع أولاده من بعده”، (السوّاح، 2002)، حيث جرى إسقاط هذا الرواية على الأزمنة السالفة.

المراجع:

(*) مقالة منشورة في مجلة الهدف – فلسطين العدد 14 (1488) – أيار/مايو 2020: إضغط هنا

السوّاح، فراس، الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، دار علاء الدين، ط4، دمشق، 1999.

السوّاح، فراس، آرام دمشق وإسرائيل، دار علاء الدين، ط5، دمشق، 2002.

السوّاح، فراس، تاريخ أورشليم، دار علاء الدين، ط3، دمشق، 2003.

ساند، شلومو، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة سعيد عيّاش، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار، رام الله، 2010.

الصليبي، كمال، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، ط6، بيروت، 1997.

القمني، سيّد، رب الزمان “الكتاب وملف القضية”، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، القاهرة، 1998.