mohannadbari

‏بين التقويمين الميلادي والهجري في العصر الحديث

ماذا حصل في الفترة الممتدة من ٥ وحتى ١٤ أكتوبر من العام ١٥٨٢؟ الجواب هو لا شيء إطلاقاً. هذه الأيام حذفت من التقويم اليوليوني (نسبة ليوليوس قيصر) وانتقل التاريخ من ٤ إلى ١٥ من نفس الشهر لمعالجة الخلل في حسبة السنة الشمسية، وذلك بمرسوم بابوي للبابا غريغوريوس الثالث عشر.
فعدد أيام السنة الشمسية حسب التقويم اليولياني هو ٣٦٥ وربع اليوم، لكن التقدم في علم الفلك بيّن أن طول السنة الشمسية هو ٣٦٥ يوم و٥ ساعات و٤٨ دقيقة و٤٦ ثانية، أي أقل بحوالي ١١ دقيقة من التقويم المعمول به. تطلب ذلك تعديل الخلل التراكمي لمئات السنين وطبق التقويم الميلادي (الغيرغوني)، وحذفت الأيام الإضافية منذ تأريخ ولادة المسيح. لهذا نجد الفرق اليوم بين التوقيمن الشرقي والغربي في تحديد ميلاد المسيح.

بالنسبة لنا في الشرق، ساد التقويم القمري في الكثير من الثقافات القديمة، بما فيها الحضارة الإسلامية. ويبلغ طول السنة القمرية ٣٥٤.٣٧ يوماً، أي أقل من طول السنة الشمسية بحوالي ١١ يوماً، وكان يعدل التقويم القمري مع الشمسي بإضافة شهر النسيء كل ثلاث سنوات.
مع الحقبة الأموية الاسلامية جرى حذف النسيء، (بعض الروايات تفترض أنه وقع في زمن أسبق وأخرى في أزمنة لاحقة)، ما أدى إلى تنقل الأشهر القمرية في فصول السنة الشمسية الأربعة، كذلك انقطعت المناسبات الدينية عن سياقها، حيث لم يعد ممكناً فهم الأشهر الحرام في الثقافة العربية التي تحيل إلى أوقات حرّم فيها القتال لأسباب تتعلق بالتجارة والحج. وقد جاء تحريم النسيء كما ذكرت الروايات الإسلامية في سياق مواجهة التلاعب في تقديم الأشهر الحرم وتأخيرها لدى العرب في الفترة الجاهلية.

لكن بعد أن ساد التقويم الميلادي في العالم في النصف الأول من القرن العشرين، استمرت الثقافات التقليدية باستعمال التقويم القمري لتحديد مواعيد المناسبات الدينية للثقافات المختلفة، بما فيها شهر رمضان والعيدين الفطر والأضحى، وذلك دون مطابقة التقويمين القمري مع الشمسي.
في عالمنا العربي الإسلامي اليوم، نجد أن التيار المتدين يطالب بتطبيق التقويم الهجري القمري المعمول به حالياً بديلاً عن التقويم الشمسي، مفترضين أنه يناسب العالم أكثر من غيره. ويأتي هذا التعنت بعيداً عن السبب الرئيسي لوضع التقويم عند البشر. فالتقويم وضع بالأساس لتحديد مواعيد الزراعة والحصاد ومواجهة التحولات في الطقس والتعامل معها، وحديثاً تحديد جدول أعمال الوزارات. فكيف يمكن تحديد بداية الشهر القمري التي تحتاج إلى تحر دوري وقد تختلف من موقع جغرافي إلى آخر، ولنا في الأول من رمضان خير مثال في العالم العربي الاسلامي اليوم، حيث لم يتحقق الاجماع عليه لمرة واحدة في العصر الحديث. كذلك كيف يمكن أن نحدد بداية العام الدراسي بشكل سنوي في ظل تنقل الشهور الهجرية في فصول السنة الأربعة؟ أليس استخدام التقويم الميلادي أكثر فعالية!.

mohannadbari

الحدث التوراتي بين منهجين: السوّاح ناقداً الصليبي*

مهند عبد الباري – كاتب وناشط سياسي /فلسطين

المقدمة:

تشكل قراءة التاريخ الفلسطيني القديم معضلة حقيقية لدى الباحثين كما لدى القرّاء عموماً، إذ يصطدم القارئ بعشرات الكتابات التي تُقدّم تصورات متباينة لتسلسل الأحداث التي وقعت على أرض الجغرافيا الفلسطينية قديماً. ونظراً لأن الحاضر الفلسطيني يشهد صراعاً محموماً سياسياً وأيديولوجياً، فقد لعبت البنى الفاعلة فيه دوراً حاسماً تجسّد في إعادة بناء هذا التصورات، لا سيّما الاستعمار الصهيوني الذي اتكأ منذ نشأته على مزعم الوجود التاريخي قبل نحو ثلاثة آلاف عام؛ وذلك من أجل تثبيت روايات ونقض أخرى في سبيل التأسيس لشرعية راهنة. بيد أن التحوّل الحاسم الذي شهده عِلما الآثار والتاريخ والنتائج التي أفضيا إليها أسسا لبناء تصور جديد للتاريخ الفلسطيني القديم أكثر موثوقية ويستند إلى البيّنات التاريخية والأثرية؛ ما أدى إلى إسقاط تاريخية الرواية التوراتية وإزاحتها إلى المجال الديني الصرف.

جاءت دراسة المؤرخ اللبناني كمال الصليبي حول الأصل العسيري للتوراة في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” الصادر في العام 1985، لتكرّس الطابع التاريخي للرواية التوراتية، وذلك بعد أن نزعت حلقات التاريخ المستندة إلى علوم الآثار الطابع التاريخي عنها. وفي حين اختار الصليبي عسير غرب الجزيرة العربية مسرحاً لأحداث هذه الرواية إثر تطبيق منهج المقابلة اللغوية، فقد صدرت إسهامات عربية لاحقة اتخذت ذات المنهج الذي أفضى بها لاختيار جغرافية اليمن، فيما اختار آخرون غامد أو السراة.

الباحث السوري في الميثولوجيا وتاريخ الأديان فراس السوّاح تصدّى في كتابه “الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم” إلى مقاربة الصليبي، حيث اعتبر أن كتابه “بمثابة الفصل المفقود في كتاب الصليبي، والذي يختبر نتائج المقاربة اللغوية بواسطة مناهج أخرى” (السوّاح، 1999)، مشدداً على أنه يأتي في سياق الدفاع عن منهج علمي في دراسة التاريخ. وتُعدُّ أطروحة السوّاح تأسيسية في هذا المجال، إذ أنه لا يفنّد منهج الصليبي القائم على المقابلة اللغوية في دارسة المسائل التاريخية والنتائج المتمخضة عنها فحسب، بل يتعدى ذلك لرسم جغرافية فلسطين وسورية وفق ما توصلت إليه علوم التاريخ والآثار الحديثة، قاطعاً الطريق على جميع المساهمات اللغوية أحادية الجانب التي تدعو إلى نقل أرض كنعان إلى شبه الجزيرة العربية تارة وإلى اليمن تارة أخرى، ومؤكداً على مركزية المنهج العلمي التاريخي المستند إلى المكتشفات الأثرية في دراسة المسائل التاريخية.

حول جدوى علوم الآثار في فلسطين

بقيت الرواية التوراتية في إطار المجال اللاهوتي الديني إلى أن جاء البحث الأكاديمي الغربي في القرن التاسع عشر وكرسها كرواية تاريخية، لا سيّما مع إيزاك ماركوس يوست، وليوبولد فون رانكة، وهاينريخ غريتس وغيرهم. وأرجع الباحث شلومو ساند ذلك إلى صعود الخطاب القومي في أوروبا الغربية، حيث ارتبط تعريف اليهودية العصرية القومية في ذلك الوقت بالتمسّك بالكتاب المقدّس اليهودي كتاريخ، وذلك لأن هذا الكتاب يسمح بتوفير أصل مشترك لـمفهوم “الشعب”. (ساند، 2010). كما أرجع السوّاح ذلك إلى سببين رئيسيين الأول النزعة الدينية المحافظة في الأصولية المسيحية التي تتبنى التوراة كنص مقدّس، والثاني الظروف التي أحاطت بنشوء البحث الأثري في فلسطين. (السوّاح، 2003) حيث انطلق التنقيب الأثري في فلسطين العام 1865، مع تشكيل هيئة بريطانية أطلق عليها اسم صندوق التنقيب في فلسطين برعاية الملكة فيكتوريا، ورئاسة أعلى مرجع ديني في المملكة، وقد هدف هذا الصندوق على حد وصف بيان التأسيس إلى “التحري الدقيق والمنهجي لآثار طوبوغرافية وجيولوجية وعادات وتقاليد الأرض المقدسة، من أجل توضيح مسائل الكتاب المقدس”، واستعملت الرواية التوراتية كمرشد تاريخي لعملية البحث الأثري في فلسطين، وذلك في ظل غياب الرواية الفلسطينية المستقلة عن الرواية التوراتية، إضافة إلى طبيعة فصول الرواية التوراتية التي بدت وكأنها تمنح تتابعاً تاريخياً لجغرافية المنطقة، فضلاً على ذلك فإن الجهات التي موّلت هذه الحملات يغلب عليها الطابع اللاهوتي الديني، بما في ذلك الفترة التي انتقلت فيها رعاية البعثات الأثرية إلى كبرى الجامعات الأوروبية والأمريكية، حيث ترافق ذلك مع صعود الصهيونية التي سعت إلى شرعنة رؤيتها الاستعمارية في فلسطين، وبذلك أخضعت نتائج البحث الأثري لتوجهات تلك البعثات، وجرى ربط المكتشفات الأثرية بشكل متعسف بإسرائيل التوراتية. بيد أن النصف الثاني من القرن العشرين شهد صعود تيار أثري نقدي للرواية التوراتية، يعمل على استقراء الوثائق الأثرية والتاريخية بعيداً عن الأفكار المسبقة. وقد سمحت نتائج البحث الأثري التي أجرتها الباحثة البريطانية كاثلين كينون وما تلاها من جهود بحثية، ببناء تاريخ للشرق القديم مستقل عن الرواية التوراتية، وذلك بإجراء تقاطعات لتلك المكتشفات الأثرية مع سجلات الشرق القديم القادمة من مصر والعراق وسورية، وهو الأمر الذي كشف عن استحالة المطابقة بين الواقع الأثري في فلسطين وبين الرواية التوراتية كما وردت في النصوص التوراتية، نازعاً عنها طابعها التاريخي وناقلاً إياها للمجال الديني الصرف. كما أسهم في بناء تصور جديد لنشوء الدين اليهودي في السنوات التالية على السبي البابلي، والذي شهد كتابة نص تأصيلي للمجتمع الجديد في القدس الفلسطينية بالاستعانة بتراث الشعوب التي قطنت المنطقة. (السوّاح، 2003).

بالدليل المادي أثبتت هذه النتائج جدوى البحث التاريخي القائم على البيّنة الأثرية والتاريخية، إذ أن تراكم جهود الباحثين الجدّيين استطاع أن يقلب التصوّر المهيمن لتاريخ فلسطين القديمة بشكل كامل، ساداً الباب أمام كل محاولة لقراءة الرواية التوراتية بوصفها كتاب تاريخي لشعب يدعى إسرائيل، ليس بالرغم من هيمنة الرواية التوراتية على التاريخ الديني اليهودي- المسيحي فحسب، بل وراهنية الاستعمار الصهيوني في فلسطين الذي يتخذ من الرواية التوراتية موطئ قدم أو شكلاً من أشكال الشرعية، إضافة إلى ذلك الهجمات الصهيونية على كل محاولة نقدية تمسُّ خطابه الاستعماري.

الأصل العسيري: رواية معلّقة في السماء

جاءت نظرية المؤرخ كمال الصليبي بالصدفة البحتة، هكذا يقول، حين تفاجأ بالتطابق بين أسماء المناطق في غرب الجزيرة العربية وبين أسماء مواقع توراتية عالقة في رأسه. وإذ ينطلق الصليبي من مسلّمة أن التوراة العبرية سجل كامل بالغ الدقة والتفاصيل لبني إسرائيل، فقد انصب اشتغاله على البحث عن جغرافيتها. ويقوم منهجه على “المقابلة اللغوية بين أسماء الأماكن المضبوطة في التوراة بالحرف العبري، وأسماء أماكن تاريخية أو حالية في جنوب الحجاز وفي بلاد عسير” (الصليبي،1997). وقد نسج إثر ذلك رواية حول الانتقال الآمن للنص العبري بصيغته الساكنة من كتبته الأوائل إلى يومنا هذا مع بعض الانحرافات في التشكيل الصوتي، وذلك عبر سرد مجموعة من التكهنات المعلّقة في السماء والتي لا تجد لها أقداماً تقف عليها.

وتقوم روايته على أن الانتشار المبكر لليهودية في فلسطين والشام اتبع مسار القوافل التجارية، الذي تعزز بفعل الحروب المضطردة بين يهوذا وسامرة عسير، حيث أطلقوا بعض أسماء مدنهم الأصلية على المناطق التي هاجروا إليها، وهذا ما يفسّر بالنسبة إليه ظهور بعض الأسماء التوراتية في الشام وفلسطين. وتعاظم وجود هذه الجماعات التي أصبحت فلسطين مركزها في الوقت الذي شهد انهيار مجتمع بني إسرائيل في عسير. أما لوثة النسيان لبلد النشأة في عسير خلال فترة قصيرة زمنياً (مئتين أو ثلاثمئة سنة) التي تشكل الحلقة الأهم في روايته، وتمجيد فلسطين بدلاً عنها، فيردّها الصليبي إلى الانهيار الاقتصادي الناتج عن التحوّل في مسالك التجارة إلى الشمال السوري في الحقبة الفارسية. ورافق ذلك تحوّل لغوي أصاب الشرق القديم، حيث انمحقت لغات مثل العبرية العسيرية بحلول القرن السادس قبل الميلاد وسادت الآرامية، في حين حلّت لاحقاً اللغة العربية مع القرون الأولى من العصر المسيحي في معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية، إضافة إلى العراق والشام. وطالما أن كتب اليهودية المقدسة كتبت بالعبرية، باستثناء بعض الفقرات في كتب الأنبياء المتأخرين التي كتبت بالآرامية، فقد لجأ يهود فلسطين وبابل إلى تصويت (إضافة حركات صوتية) كتبهم بطريقتهم الخاصة المتأثرة باللغتين العربية والآرامية، وذلك دون أن يجدوا من يقوّم محاولتهم من عبرانيي عسير البائدة. وقد تكرّس حضور الجغرافية الفلسطينية مع الصعود السياسي لليهود فيها مع تأسيس دولة المكابيين (142 ق.م – 63 ق.م)، ولئن جاء القرن الميلادي الأول حتى دخل الأصل العسيري في غياهب النسيان. خلال الفترة الممتدة بين القرنين السادس والعاشر الميلادي اشتغلت جماعة عرفت بالمسوّرين في فلسطين على تحقيق وتدقيق النصوص التوراتية بالأحرف الساكنة، لكنهم “أدخلوا الحركات والضوابط عليها بصورة اعتباطية في أحيان كثيرة، مما غيّر إعراب الجمل وحوّر المعاني،” (الصليبي: 1997)، ويعتقد الصليبي أن أسماء الأماكن بنصّها العبري غير المصوّت قد وصلتنا دون أن يطالها التحريف تقريباً. وقد كرَّس الصليبي جهوده من أجل فهم النص العبري في صيغته الساكنة، مهملاً نص المسوّرين، معتبراً أن هذه الجهود أدت إلى فهم جديد لمقاطع توراتية عديدة، وذلك بالإضافة إلى نقل جغرافية الحدث التوراتي إلى عسير.

مزالق المقابلة اللغوية:

أسفرت مقاربة الصليبي عن إشكالات خطيرة على مستويي المنهج والنتائج، وذلك بمعزل عن النوايا التي حملها. فقد عالج مسألة تاريخية بحتة بمنهج لغوي غير تاريخي، كما أعاد بناء علم الآثار على أساس لغوي، إذ افترض أن منهج المقابلة اللغوية هو ضرب من علم الآثار، بل ربما يتفوق عليه، حيث اعتقد أن “الاكتشافات الأثرية خرساء، ما لم تتضمن كتابات منقوشة، في حين أن الأسماء ناطقة … وفي حين أن أسماء الأماكن لا تقدم معلومات بحجم ما تقدمه الاكتشافات الأثرية، فإن المعلومات التي تقدمها هذه الأسماء فضيلة اليقين المطلق أو النسبي” (الصليبي،1997).

إضافة إلى ما ورد فقد اعتمد الصليبي على نتائج علوم الآثار بشكل انتقائي، مختاراً منها نماذج شاذة لتأييد مقاربته، مثل سجل حملة شيشانق الفرعوني، حتى وإن كان هذا السجل إشكالياً وثمة مكتشفات أثرية عُثر عليها في موقع “مجدّو” في فلسطين وفي “جبيل” في لبنان ترجّح أن حملة شيشانق كانت نحو سوريا وفلسطين وليس عسير. (السوّاح: 1999). ففي الوقت الذي برر الصليبي رفضه لجغرافية فلسطين بغياب المكتشفات الأثرية المتطابقة مع الرواية التوراة، فإنه نقل جغرافية التوراة إلى عسير التي لم تستكشف أثرياً! (السوّاح، 1999).

وبتسليم الصليبي بصحة التوراة العبرية كاملةً اقترب من التيار التوراتي اللاهوتي الذي يعتقد بأن التوراة هي كلمة الله المنزّلة، حاسماً السجال الدائر بين الباحثين التاريخيين والأثريين واللاهوتيين حول تاريخية التوراة لمصلحتها، ومجافياً الدراسات التاريخية والأثرية الراهنة التي أزاحت الرواية التوراتية من المجال التاريخي إلى المجال الديني الصرف. (السوّاح، 1999).

كما أحال الصليبي التوراة إلى مفتاح التاريخ الذي تقرأ نصوص الشرق القديم القادمة من مصر والعراق وسورية بأكملها بناء عليه، مشككاً في وثائق الشرق القديم التي تجافي مقاربته، معتبراً أنها “أجبرت على إعطاء مؤشرات جغرافية وتاريخية تتوافق مع الأحكام المسبقة لدى الباحثين التوراتيين،” (الصليبي،1997)، مسقطاً بذلك جهود علماء اللغات القديمة، وضارباً عرض الحائط شبكة المعلومات المتماسكة التي وصل إليها علم التاريخ استناداً إلى وثائق الشرق القديم (السوّاح، 1999).

وأدى نقله للحدث التوراتي إلى عسير إلى أن “ينقل معه كل مواطن الشعوب التي تشابكت أخبارها في الرواية التوراتية. وبما أن هذه الشعوب موجودة تاريخياً وأثرياً بأسمائها ومواطنها في منطقة مصر والهلال الخصيب، فقد عمل على إيجاد مثائلها في غرب العربية.” (السوّاح، 1999). ورسم خريطة لجغرافية الشعوب المزعومة في عسير بطريقة مثيرة للدهشة، ساعياً لمطابقة أسماء هذه الشعوب مع أسماء مواقع في عسير دون الالتفات إلى أهمية التواصل الجغرافي لمدن المملكة الواحدة، بحيث يعوزها الناظم الجغرافي وتبدو مبعثرة وكأن لا رابط يجمعها.

وإذ كان مؤدّى مقاربة الصليبي أن التوحيد ظهر مع بني إسرائيل في عسير، فإن ذلك يخالف منطق التطور التاريخي وشروطه المجتمعية والاقتصادية والسياسية، وقوانين الحراك الاجتماعي، إذ أن التوحيد بوصفه ظاهرة تاريخية يظهر في المجتمعات المركزية التي استطاعت أن تفرز بناء اجتماعي ينزع نحو سيادة إله واحد يرعى مصالح الطبقات السائدة ودولتها الإمبراطورية، وهو ما كان ممتنعاً مع قبائل مجتمع بني إسرائيل المزعوم في عسير. (القمني، 1998).

 كذلك لجأ الصليبي إلى آيات قرآنية وانتقى منها بعض المواضع التي أشارت إلى اليهود والأماكن التي تواجدوا فيها، في محاولة متعثّرة لمطابقتها مع أسماء أماكن في شبه جزيرة العرب، دون أن يعطي بالاً للافتراق الزمني الهائل بين الحدثين القرآني والتوراتي، أو طبيعة النص الديني الإشكالية، ناقلاً نفسه من البحث في المجال التاريخي إلى المجال الديني.

نتائج الصليبي في ميزان علوم التاريخ والآثار:

في سعيه لنقد النتائج التي تمخضت عنها مقاربة الصليبي في أطروحته المذكورة أعلاه، أرجع السوّاح تلك النتائج من خرائط ومسارات لحملات عسكرية وغيرها، إلى سياق النص التوراتي ذاته، حيث تحرّى إمكانية مطابقة ذلك النص بالدلالات الجديدة التي منحها إياه الصليبي، مع الجغرافية العسيرية المزعومة. كما أخضع تلك النتائج إلى سجلات التاريخ القادمة من العراق ومصر وسورية، مفصلاً سجلات الحضارتين الفرعونية والآشورية بحسب تتابعها الزمني، ومبيّناً مسارات حملاتهم العسكرية في سورية وفلسطين، حيث تطابقت السجلات الآشورية والفرعونية والسورية مؤيدة أن جغرافية الرواية التوراتية هي في بلاد الشام وليس في عسير. كذلك عرض نتائج الكشوفات الأثرية في سوريا وفلسطين (أورشليم ومجدو وحاصور وجازر وعكا وبيت شميش وصور وعرقتا وجبيل وغيرها) التي تتقاطع مع السجلات التاريخية للحضارات القديمة والرواية التوراتية، راصداً تقاطعات أثرية وكتابية تؤكد أن المجال الذي تدور فيه هذه السجلات هو شمال الشرق الأدنى بين نهري النيل والفرات وليس عسير، وذلك بغرض كشف التناقض الكامن في خارطة الصليبي وفضح التحريف الذي أدت إليه المقاربة اللغوية التي حمّلت عسير تاريخاً لا تحتمله.

وقد استعرض السواح الترجمات اليونانية للتوراة وتواريخ إنجازها وتسلسلها إلينا من مصادر عبرية مختلفة، معرّفاً بمخطوطات قمران التوراتية التي عثر عليها في كهوف شمال البحر الميت في فلسطين، وذلك بغرض تقويض مقولة الصليبي عن موت اللغة التوراتية اعتباراً من القرن الخامس قبل الميلاد، وتفنيد أن ذلك أدى إلى نسيان جغرافية الحدث التوراتي، باعتبارها نتيجة تمخضت عنها. فإذا كان أقدم نص توراتي من نصوص قمران يرجع إلى نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وأقدم ترجمة ذات أصل مستقل، وهي السبعونية، ترجع إلى أواسط القرن الثالث قبل الميلاد، أي بعد قرنين فقط من بناء نحميا لسور أورشليم بعد العودة من السبي كما تزعم الرواية التوراتية، وقرنين ونصف من إعادة بناء الهيكل على يد زُربابل، فكيف تَسنّى لهؤلاء نسيان مسرح الحدث التوراتي في غرب العربية، خلال هذا الوقت القصير جداً. (السوّاح، 1999)

ويلجأ السوّاح في رحلته لضرب آخر ما تبقى من مقاربة الصليبي إلى المؤرخين الإغريق الذين كتبوا عن مناطق الشرق القديم واصفين عادات أهلها ودينهم وطقوسهم، حيث لم يأتوا على ذكر يهوذا عسير إطلاقاً، رغم أنهم أشاروا إلى شعوب اليمن. وتكرر ذلك مع الإخباريين العرب الذين لم يقدّموا أية معلومة تشير إلى قيام دولة سليمان ودولتي يهوذا وإسرائيل في شبه جزيرة العرب.

على سبيل الختام: حول مصداقية الحدث التوراتي في فلسطين

أن تدور الرواية التوراتية حول جغرافية فلسطين وما حولها فإن ذلك لا يعني أن الرواية صحيحة تاريخياً أو أنها جرت على أرض الواقع. حيث توصلت نتائج البحوث الأثرية والتاريخية في فلسطين إلى نفي رواية ما عرف بعهد الآباء من ابتداءً من الأب الأول إبراهيم وانتهاء بيوسف بن يعقوب، كذلك استحالة الوجود التاريخي لمملكتي داوود وسليمان التوراتيتين في القرن العاشر قبل الميلاد في الهضاب الفلسطينية، ونفي العلاقة بين مملكتي السامرة- إسرائيل ويهوذا الفلسطينيتين وبين الممالك الوارد وصفها في أسفار التوراة. في الوقت ذاته فإن عدم تاريخية الرواية التوراتية لا يمنح أحداً ترف نقل جغرافيتها إلى موقع آخر دونما الاستناد إلى منهج تاريخي يستند إلى علوم الآثار في المقاربة وشواهد أثرية وكتابية يمكن الركون إليها. وقد كان مؤدّى تطابق سجلات الشرق القديم والمواقع الأثرية في الشام وفلسطين، وهي ذات أسماء المواقع المستخدمة في الرواية التوراتية، إلى تكوين تصوّر للتاريخ يعتبر أن الرواية التوراتية هي رواية أصول قومية-إثنية كتبها كهنة أورشليم الفلسطينية حول تاريخ جغرافية أورشليم بالتحديد، ما بين أواخر القرن السادس والقرن الثاني قبل الميلاد، بالاستناد إلى مخيّلة رحبة من الخرافات والقصص الشعبية، حيث رسموا خط نسب نبيل يوصلهم بالأسباط الإثني عشر صعوداً إلى إبراهيم، وخطوط نسب فرعية توصل إلى بقية الشعوب القريبة من عهد توثيق التوراة هذا من جانب، ومن جانب آخر أن “الإله الواحد، الذي بشّر به كهنوت يهوذا بعد السبي البابلي، هو ذاته، الذي بشّر به موسى بين بني إسرائيل في مصر، وهو الذي خاطب إبراهيم أول مرة في حاران وأقام معه العهد ومع أولاده من بعده”، (السوّاح، 2002)، حيث جرى إسقاط هذا الرواية على الأزمنة السالفة.

المراجع:

(*) مقالة منشورة في مجلة الهدف – فلسطين العدد 14 (1488) – أيار/مايو 2020: إضغط هنا

السوّاح، فراس، الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، دار علاء الدين، ط4، دمشق، 1999.

السوّاح، فراس، آرام دمشق وإسرائيل، دار علاء الدين، ط5، دمشق، 2002.

السوّاح، فراس، تاريخ أورشليم، دار علاء الدين، ط3، دمشق، 2003.

ساند، شلومو، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة سعيد عيّاش، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار، رام الله، 2010.

الصليبي، كمال، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، ط6، بيروت، 1997.

القمني، سيّد، رب الزمان “الكتاب وملف القضية”، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، القاهرة، 1998.

 

mohannadbari

الرواية التوراتية والتاريخ الفلسطيني في ميزان فراس السواح(*)

مهند عبد الباري – كاتب وناشط سياسي /فلسطين

هيمنت الرواية التوراتية على تاريخ الجغرافية الفلسطينية لوقت طويل، إذ جرى الاعتقاد أن الحكاية الواردة في أسفارها تنضوي على أحداث تاريخية حقيقية، ساعد على ذلك التوجه الاستشراقي للحكومات الأوروبية والأمريكية بأبعادها الاستعمارية والدينية، وتأسيس الحركة الصهيونية وانطلاق موجات الهجرة إلى فلسطين، الأمر الذي غذى الاعتقاد بمصداقية الرواية التوراتية؛ غير أن نتائج الكشوفات الأثرية التي تراكمت في الربع الأخير من القرن العشرين فنّدت رواية التوراة ونزعت عنها طابعها التاريخي وأحالتها إلى المجال الديني الصرف، فضلاً عن أنها سمحت بإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني وفق منهجية تاريخية تعتمد الوثيقة الأثرية والتاريخية.

يعرض هذا المقال حلقات التاريخ الفلسطيني القديم كما جاءت لدى الباحث في الميثولوجيا وتاريخ الديانات الشرقية فراس السوّاح في مؤلفيه “آرام دمشق وإسرائيل” و”تاريخ أورشليم”، بالاستناد إلى آخر المكتشفات الأثرية والتاريخية، مقدماً نقداً لفصول الرواية التوراتية، حيث يجيب في السياق على السؤال حول نشوء اليهودية، وذلك للارتباط الوثيق بين هذه الإجابات وبين التاريخ الفلسطيني القديم.

وقد واجه السواح مأزقاً حقيقياً بسبب انعدام المصادر الأثرية لفترة السبي البابلي وما بعدها؛ غير أنه اضطلع بمهمة المؤرخ في قراءة النصوص المتوفرة التي انحصرت في بعض النصوص التوراتية وكتابات المؤرخ اليهودي يوسفوس، وخلص السواح إلى أن مملكتي يهوذا والسامرة كنعانيتان فلسطينيتان، وأن الفترة السابقة على السبي لم تشهد وجود الدين اليهودي ولا حتى بالطور الجنيني، وأن “العائدين” من السبي البابلي أعلوا الإله الكنعاني بعد أن طابقوه مع الإله الفارسي، وأن دولة المكابيين هي الدولة اليهودية الوحيدة التي قامت في مقاطعة يهود الفارسية الصغيرة التي أقيمت على أرض مملكة يهوذا، قبل أن يجري تدميرها على يد تيتوس الروماني، وأن هيرود العربي (حكم العام 40 ق.م) هو الذي بنى الهيكل أورشليم، فيما لم تكشف التنقيبات الأثرية عن وجود أي هيكل سابق عليه.

الباحثون الأثريون وتاريخ فلسطين القديم:

انطلق التنقيب الأثري في فلسطين العام 1865، مع تشكيل هيئة بريطانية أطلق عليها اسم صندوق التنقيب في فلسطين برعاية الملكة فيكتوريا، ورئاسة أعلى مرجع ديني في المملكة، وقد هدف هذا الصندوق على حد وصف بيان التأسيس إلى “التحري الدقيق والمنهجي لآثار طوبوغرافية وجيولوجية وعادات وتقاليد الأرض المقدسة، من أجل توضيح مسائل الكتاب المقدس”، واستعملت الرواية التوراتية كمرشد تاريخي لعملية البحث الأثري في فلسطين، وذلك لغياب الرواية الفلسطينية المستقلة عن الرواية التوراتية، وطبيعة فصول الرواية التوراتية التي بدت وكأنها تمنح تتابعاً تاريخياً لجغرافية المنطقة (تتكون الرواية من ست حلقات: عصر الآباء، والعبودية في مصر والخروج، واقتحام كنعان، وعصر القضاة، والمملكة الموحدة، والمملكة المنقسمة)، كل ذلك في الوقت الذي مثّل فيه العهد القديم (التوراة) السند الوحيد للعهد الجديد (الانجيل)، هذه المنطلقات حددت المسار اللاحق لعمليات البحث.

وقد انقسم الباحثون الأثريون في هذا الصدد إلى تيارين رئيسيين: الأول المتحرر، والآخر المحافظ، حيث يتوزع الباحثون بينهما. يجمع التيار الأول الموقف النقدي من التوراة، والعمل الجدي على استقراء الوثائق الأثرية والتاريخية، في حين جادل التيار المحافظ بأن “الشكل الأخيولي الأدبي لهذه الأسفار ينضوي على أحداث تاريخية حقيقية، غلّفها خيال النقلة عبر العصور… وأن النقد النصي يستطيع اكتشاف المستوى التاريخي الكامن تحت الظاهر الأخيولي للمادة التوراتية”.

في أعقاب احتلال فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني “إسرائيل” على أرضها العام 1948، ثم احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، انفتحت الجغرافية الفلسطينية أمام البعثات الأثرية الإسرائيلية؛ غير أن التنقيبات الأثرية خيبت آمال أصحاب الرواية التوراتية، وأسهمت في تضييق الهوّة بين كلا التيارين الأثريين، حيث أزاحت نتائج البحث الأثري أكثر فصول الرواية التوراتية عن طاولة النقاش التاريخي، وأحالتها إلى المجال الديني الصرف.

رواية الأصول التوراتية: أخيولة أدبية بحتة:

يعلن السواح أن النقد الأثري والتاريخي للرواية التوراتية خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين استطاع إخراج ثلاث حلقات من أصل ست حلقات، من مجال التاريخ إلى المجال القصص الديني، هذه الحلقات هي: أولاً قصص الآباء في سفر التكوين. ثانياً، قصة خروج بني إسرائيل من مصر. ثالثاً، قصة اقتحام القبائل الإسرائيلية أراضي كنعان، وقد خصص السواح في كتابه “آرام دمشق وإسرائيل” فصلاً لعرض كل قسم من أقسام الرواية وقدم له نقداً نصياً وآخراً تاريخياً وأثرياً.

فقد كشفت نتائج البحث الأثري حول قصص الآباء انعدام أية بيّنات أثرية أو وثائق يمكن أن تسمح بإجراء عملية تقاطع بين مفاصل قصة من قصص الآباء، ابتداء من الأب الأول إبراهيم وانتهاء بيوسف بن يعقوب، أو أي عنصر ثانوي من عناصرها، مع أي حدث أو معلومة تاريخية من عصر البرونز الوسيط أو حتى الأخير… وأن المدن التي تظهر في نصوص سفر التكوين إما غير موثقة تاريخياً، مثل سدوم وعمورة. وأما الموثقة تاريخياً، فمعظمها يشير إلى تاريخ لاحق لأحداث السفر لا يتجاوز بكثير الألف الأول قبل الميلاد.

فيما يتعلق برواية الخروج، فلا توجد أية بيّنات تاريخية أو أثرية تؤكد حلول العبرانيين في مصر، ولا عن خروجهم منها. أما القسم الآخر من الرواية، الذي يفترض حصوله شرق الأردن، فلا توجد بيّنات أيضاً، وقد فشل البحث الأثري في تتبع مسار الخروج اعتماداً على الرواية التوراتية، حيث إن أسماء المواقع الجغرافية غير مذكورة خارج النص التوراتي، حتى المواقع التي تحمل أسماء مشابهة في سيناء لم يعطِ المسح الأثري فيها نتائج تشجع على إجراء مطابقة مع النص، بما في ذلك جبل موسى الذي سمّي بهذا الاسم حديثاً عقب بناء كنيسة القديسة كاترين البيزنطية في الموقع. أما الأرض التي يصفها النص بأرض الفلسطينيين لم تكن قد استقبلت بعد شعوب البحر والقبائل الفلستية.

سكان الهضاب الفلسطينية: كنعانيون أصيلون

خلال القرن السادس عشر قبل الميلاد ضربت موجة جفاف مسياني اليونان وجزر بحر إيجة وامتدت إلى بلاد الشام شرقاً، حيث استمرت بخطى متسارعة حتى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، انهارت بفعلها مدن الشام تبعاً للحساسية للمناخ، حيث لاحظ علماء الآثار حدوث تدهور تدريجي في الحضارة الكنعانية. وتحركت جماعة من شعوب البحر الباحثة عن الكلأ باتجاه مصر، القط السمين في ذلك الوقت، إلا أن الفرعون مرنفتاح هزمهم العام 1220 ق.م. وقد هزمهم رمسيس الثالث من بعده، وسمح للفليست منهم بالتوطن في السهل الساحلي، وقد صار اسم “فليست” يطلق على كامل المنطقة الواقعة إلى الجنوب من لبنان بين البحر المتوسط ونهر الأردن. وتشير المخلفات الأثرية من تلك المرحلة إلى ذوبان هؤلاء القادمين في الثقافة الكنعانية، حيث تختفي الخزفيات الوافدة معهم خلال القرنين التاليين، ثم عادت المنطقة إلى التوطّن بالسكان تدريجياً ارتبطاً بالتحول المناخي الجديد الذي مال إلى الاعتدال، وتلاشت آثار الجفاف خلال النصف الأول من القرن الحادي عشر قبل الميلاد.

وقد جهد الباحثون التوراتيون إلى تفسير ظهور القرى الجديدة في الهضاب الفلسطينية انطلاقاً من العام 1250 ق.م عبر مطابقتها مع رواية دخول العبرانيين إلى الأرض الفلسطينية، ويقدم النص التوراتي روايتين متناقضتين بهذا الشأن: سفر يشوع الذي يصف الاقتحام العسكري والسيطرة على الهضاب، وسفر القضاة الذي يصف التسرب السلمي والحلول وسط السكان الكنعانيين؛ غير أن التنقيبات الأثرية فنّدت رواية الاقتحام العسكري وأسقطتها. واتكاءً على رواية القضاة قدم الباحثون أربع نظريات حول الحلول السلمي للعبرانيين؛ غير أن النظرية الأركيولوجية الحديثة التي تعتبر الإطار العلمي الأثري في فلسطين، كشفت أن سكان الهضاب كنعانيون فلسطينيون ولم يأتوا من مصر، وأن المعلومات الأثرية تنفي إمكانية ظهور الدين التوراتي ولا حتى بالشكل الجنيني في فلسطين خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد (تقدم السواح سابقاً بنظرية التطور الديني التوراتي في كتابه لغز عشتار لتفسير سكن القرى الجديدة في الهضاب مطلع عصر الحديد لكنه تخلى عنها وأجرى تعديلات أساسية عليها)

“سليمان وعفاريته من طينة واحدة”

تقوم الرواية التوراتية على أن القبائل العبرانية خرجت من مصر العام 1250 ق.م، وتوطنت في الهضاب الفلسطينية خلال الفترة (1200-1000 ق.م)، وأنها اجتمعت تحت لواء شاؤول الذي حارب الفلستيين ثم قُتل خلال الحرب، وأن القبائل اجتمعت وانتخبت الملك داوود (حكم 40 عاماً للفترة 1009-969 ق.م) الذي دخل أورشليم وجعلها عاصمة مملكته الموحّدة، وأن داوود حكم جميع المناطق الفلسطينية عدا فلستيا، وحكم شرقي الأردن وسورية الجنوبية، وأن سليمان ورث المملكة (حكم 38 عاماً للفترة 969-931 ق.م) وأصبح أعظم ملوك الشرق بعد أن منحه الرب الحِكمة، وأن الملوك تقاطروا للاستماع لحكمته، وأنه حين توفي انقسمت المملكة إلى السامرة في الشمال ويهوذا في الجنوب، وأن نَسل سليمان حكم يهوذا حتى دمار المدينة على يد نبوخذ نصّر العام 587ق.م؛ غير أن التنقيبات الأثرية أكدت استحالة قيام المملكة الموحدة لاعتبارات أهمها انعدام الشواهد الأثرية، وعدم ذكر المملكة وعاصمتها أو أحد زعمائها لدى الفراعنة والآشورية المجايلين، فضلاً عن غياب القاعدة السكانية في الهضاب الفلسطينية التي تسمح بوجود المملكة.

تقول الباحثة كاثلين كينيون: “إن أعمق ما استطاعت عمليات التنقيب الوصول إليه هو أورشليم عصر نوبوخذ نصر العام 587ق.م، أما المدينة السليمانية الأقدم، والعاصمة المفترضة للمملكة الموحدة، فلم يتم العثور على بنية واحدة من بناها”. وينفي السوّاح إمكانية تشييد هيكل سليمان في أورشليم في القرن العاشر قبل الميلاد، إذ أن المملكة الموحدة نُسف أساس وجودها، فضلاً أن الهيكل غير موثق تاريخياً ولا أثرياً، ودماره غير موثق لدى البابليين، وأن “إعادة تصور المعبد اعتماداً على وصفه الوارد في سفر الملوك الأول وبعض مقاطع من سفر حزقيال، تضع أمامنا مخططاً لمعبد سوري تقليدي، من المعابد المكرسة لألوهة الخصب، والتي شاع بناؤها في بلاد الشام… وقد كشفت التنقيبات في بلاد الشام عن أكثر من عشرين معبداً مشابهاً”. كذلك فإن النص التوراتي يأتي على مثال واحد وحيد يعرض فيه حكمة سليمان، وهو قصة ساذجة يغلب عليها طابع الأدب الشعبي، ولا يذكر النص من بين الملوك المتقاطرين إلا ملكة مجهولة يدعوها ملكة سبأ، وبما أن مملكة سبأ المعروفة في جنوب شبه الجزيرة العربية لم تقم إلا في القرن الرابع قبل الميلاد، لذا فإن المطابقة بين ملكة سبأ الواردة في النص وإحدى ملكات سبأ التاريخيات لا يقوم على أساس علمي، كذلك فإن النص التوراتي الذي يفوق قصص ألف ليلة وليلة خيالاً، يجعل لسليمان سفناً تجوب بحر المتوسط، وذلك رغم أن مملكة سليمان المزعومة لم يكن لها مرفأ بحري على هذا الشاطئ!

ويسأل السوّاح: لماذا لم يرد ذكر داوود في السجلات الآشورية التي قدمت خريطة سياسية وافية لمناطق الفرات وشمال ووسط سوريا؟ ولماذا خلت أخبار سفر صموئيل الثاني من أية إشارة إلى آشور؟ ويجيب: إن محرر سفر صموئيل الثاني لم يكن بين يديه معلومات حول القرن العاشر قبل الميلاد، وأنه لم يكن بقصد كتابة نص تاريخي، بل هدف إلى تزيين سيرة ملك ملحمي بالاستعانة بالذاكرة الشعبية في أحسن الأحوال.

إسرائيل ويهوذا الفلسطينيتان

ظهرت مملكة إسرائيل – السامرة العام 880 ق.م في الإقليم المعروف بالسامرة، وهي مملكة فلسطينية محلّية شيّدها الملك عمري، وقد استمرت أقل من قرنين من الزمان، حيث دمرها الآشوريون حوالي العام 721ق.م وسبوا أهلها إلى آشور. ويرد ذكر مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم في الوثائق الآشورية لأول مرة حوالي العام 732 ق.م، وهي مملكة فلسطينية محلية أيضاً، وقد جرى تدمير أورشليم وإلغاء يهوذا من الخارطة السياسية الفلسطينية على يد البابليين حوالي العام 587 ق.م، ورغم عدم توفر نص بابلي يخبر بالسبي البابلي، فإن المعلومات الأثرية تشير إلى التدمير الذي لحق في المدينة.

وتنفي المعلومات الأثرية الحديثة ما قدمته الرواية التوراتية حول المملكتين الفلسطينيتين، إذ أن مملكة السامرة- إسرائيل هي أول كيان سياسي معروف في السجلات التاريخية في المنطقة، ولم تنشأ عن مملكة موحدة سابقة عليها، وأن مملكة يهوذا نشأت بعد قرن ونصف من قيام مملكة السامرة، ولم تقم كنتيجة لانقسام المملكة الموحدة، كما لم يتوفر دليل واحد يسمح بعقد الصلة بين ملوك السامرة ويهوذا وبين ملوك المملكة الموحدة وأسباطها المزعومة، إذ تنتمي المملكتين إلى الثقافة الكنعانية السورية: فاللغة التي تكلموها هي لهجة كنعانية فلسطينية قريبة جداً من لهجة فينيقيا وأوغاريت، والقلم الذي كتبوا به لغتهم هو القلم الفينيقي الآرامي بعينه، كذلك فإن ديانة المملكتين كانت استمراراً طبيعياً لديانة كنعان في عصر الحديد الأول وما سبقه، والآلهة التي عبدت هي الآلهة الكنعانية، كما أن عمليات البحث الأثري لم تعثر على أثر للمعتقدات والطقوس التوراتية في معابد المملكتين إطلاقاً، وجميعها مكرّسة للآلهة الفلسطينية التقليدية. ويسأل السواح متعجباً: هل يعقل أن شعباً كثير العدد قد حل في الهضاب الفلسطينية مدة قرنين من الزمن وبنى لنفسه مملكة كبرى بعد ذلك دامت حوالي قرناً تقريباً، وضمت إليها أغلب المناطق الفلسطينية، لم يترك لنا أثراً واحداً يدل على ثقافتها الدينية؟!

العصر الفارسي ونشأة الدين اليهودي:

هُزم الآشوريون على أيدي البابليين، وواصل الحاكمون الجدد سياسة سابقيهم في تهجير الشعوب وإعادتها، وتظهر نغمة جديدة في الخطاب البابلي الذي حاول إقناع شعوب المملكة بالسيد الجديد بوصفه محرر الشعوب من نير الاستعباد الآشوري وسياساته التي استهدفت آلهتهم، وقد كشفت عمليات البحث الأثري النقاب عن نصوص بابلية تؤسس لإعادة التوطين، مثل نص إعادة سكان حرّان الذي يوليه السوّاح أهمية خاصة، معتبراً إياه المفتاح الأساسي لفهم المنعطف الجديد الذي اتخذه مسار الأيديولوجية الدينية في المنطقة، والذي وجد أحد تجسيداته بعد ذلك في كتب التوراة، وقد أسس هذا المسار لعملية إحياء الإله القديم عبر تحميله كل معاني الخلق الجديد لمعتقد وعبادة وطقوس لا تربطها بالصور الماضية إلا أوهى الروابط، وترد في هذا النص ثلاث أفكار رئيسية: الأولى فكرة الإله الواحد. والثانية فكرة إعادة بناء الهيكل لهذا الإله الواحد. والثالثة فكرة العودة وبناء مجتمع جديد يتمركز حول الهيكل وإلهه الذي أصبح شمولياً.

لم تعمر الإمبراطورية البابلية كثيراً، وسرعان ما سقطت في أيدي قورش الفارسي عام 539 ق.م. استهل قورش حكمه بإصدار بيان سياسي ذكر فيه أنه بصدد إعادة السكان الذين تعرضوا للسبي إلى مدنهم، وإعادة إعلاء آلهتهم. ويعتقد السواح أن هذه السياسة استهدفت بناء نظام إداري جديد في الإمبراطورية ذي طابع لا مركزي، ساعد في فرض القوانين والشرائع الفارسية، حيث طابقت الإدارة الجديدة بين الآلهة المحلية في المجتمعات الجديدة وبين الإله الفارسي الواحد (أهورامزا).

فيما يتعلق بمقاطعة “يهود” التي أقامها الفارسيون على جزء من أراضي مملكة يهوذا البائدة، فلم يجرِ الكشف عن وثائق فارسية تخبر بعودة المهجرين إليها، إذ أن الوثائق الفارسية شبه معدومة فيما يتعلق بفلسطين خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وكذلك المصرية، وتنحصر الشواهد الأثرية في طبعات الأختام على الجرار الفخارية المعدة لتسويق منتجات الزيت والخمور، وكذلك في قطع العملة المعدنية، هذا الأمر وضع الباحثين الأثريين أمام مأزق حقيقي في مهمتهم التأريخية، وقد لجأ السوّاح إلى سفري عزرا ونحميا التوراتيين اللذان يفصّلا قصة العودة إلى أورشليم؛ وإذ لا يشكك السواح بالخطوط العامة لرواية السفرين، فإنه يرى أنه بناء على التحليل النصي لهما، وارتباطاً بالسياق التاريخي للإمبراطورية الفارسية، فإن “العائدين” إلى أورشليم منذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد لم يكونوا استمراراً لأولئك المهجرين على يد نبوخذ نصّر وما بنوه في أورشليم لم يكن استمراراً للبنية القديمة، وقد أعلي الإله يهوه بعد أن جرت مطابقته مع إله السماء الفارسي، حيث نجد استعمال عبارة إله السماء لأول مرة في معرض الإشارة إلى الإله القديم يهوه

بخصوص الشريعة الجديدة التي جاء بها عزرا من البلاط الفارسي، فهي العهد الأول الذي عقد بين الجالية الجديدة في أورشليم بين الإله الجديد والشعب الجديد، وهو الذي أسقطه المحررون على رواية الأصول، ثم جاء استكمال الجهد من قبل كهنة أورشليم الذي أضافوا لهذه الشريعة وأعادوا إنتاج القصص الشعبية على أنها روايات أصول للجماعة الناشئة. بذلك، فإن الفترة الواقعة بين أواخر القرن السادس وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد، هي التي تمت خلالها الصياغة التدريجية للمعتقد التوراتي والشريعة التوراتية.

ويكشف النص التوراتي عن هاجس تراثي أرّق محرري التوراة ودفعهم لكتابة نص تأصيلي يتضمن رؤية أيديولوجية ذات شقين اثنين: شق عرقي وشق ديني. عرقياً، فهي ترنو إلى رسم خط نسب نبيل يوصل إلى الأسباط الإثني عشر لإسرائيل، وخطوط نسب فرعية توصل إلى بقية الشعوب القريبة زمنية من عهد توثيق التوراة. فمن جارية إبراهيم المصري يولد إسماعيل وهو أبو القبائل الإسماعيلية. ومن عيسو المنبوذ يولد أدوم وعماليق. ومن بنتي لوط اللتين حملتا سفاحاً من أبيهما يتسلسل المؤابيون والعمونيون. دينياً، فإن “الإله الواحد، الذي بشّر به كهنوت يهوذا بعد السبي البابلي، هو ذاته، الذي بشّر به موسى بين بني إسرائيل في مصر، وهو الذي خاطب إبراهيم أول مرة في حاران وأقام معه العهد ومع أولاده من بعده”.

وبالرغم من أن عملية التنسيق الأخيرة لنص التوراة وضعت القصص ذات المشارب الثقافية المختلفة في رواية واحدة، إلا أن العناصر الأساسية في تلك القصص حافظت على حضورها، فالإله الذي يتناول الطعام تحت الشجرة بدعوة من ابراهيم، ويلتحم بصراع جسدي مع يعقوب، هو غيره في سفر الخروج الذي يسير أمام الشعب على هيئة عمود من نار أو سحاب، وهو غيره الذي سكن هيكل أورشليم.

الفترة اللاحقة: من العصر الهلينستي إلى العصر الروماني دمار أورشليم:

غنم الاسكندر المقدوني بلاد الشام ومصر العام 333 ق.م، ثم الفرات وصولاً إلى الهند وطرد الفرس، إلا أنه توفي وانقسمت الإمبراطورية بين بطليموس وسلوقس، واستقل بطليموس في مصر وسورية الجنوبية التي شملت فلسطين، وحكم البطالمة سورية الجنوبية حتى العام 200 ق.م، حين استطاع السلوقيون انتزاعها والسيطرة عليها، ولم تكن هذه الفترة أفضل حالاً على صعيد توفّر الوثائق الأثرية والتاريخية، حيث انحصرت في أسفار المكابيين – أسفار غير معترف بها – التي لا يوجد لدى السلوقيين ما يتقاطع مع روايتها، وأعمال المؤرخ يوسيفوس التي تنقصها المنهجية وتملأها التناقضات، ويراهن السواح على قدرته كمؤرخ في قراءة ما خلف السطور وتخليص مروياتها من المبالغات.

وتقوم رواية المكابيين على أن السلوقيين فرضوا الهيلينية على أورشليم بالتعاون مع تيار إصلاحي في المدينة، غير أن التيار المحافظ بقيادة متى حشمون، قاد تمرداً العام 164 ق.م، وأتبعه بتطهير المعبد من الرموز الإصلاحية، بعد توالي أحداث كثيرة، ورث شقيقه الأصغر سمعان حكم أورشليم وأعلن مقاطعة اليهودية دولة مستقلة العام 142 ق.م، وهي الدولة التي عرفت بدولة المكابيين. لاحقاً حاصر الرومان أورشليم وفتحوها العام 63 ق.م، حيث حول بومبي الروماني فلسطين إلى مقطعة صغيرة تابعة للولاية السورية. وتحفل النصوص بعظيم التبجيل لهذا الاستقلال، ملقية عليه مسحة إلهية؛ غير أن السواح يرد هذا الاستقلال إلى حالة التفكك التي عانت منها الدولة السلوقية مع بزوغ روما الجديدة، حيث نجد تكرر استقلال المقاطعات المجايلة: صور وصيدون وطرابلس وأشقلون واللاذقية وبيروت.

عيّن الرومان هيرود حاكماً على مقاطعة اليهودية بعد أن عاد على رأس جيش روماني وهزم المتآمرين على أبيه انتيبار العام 40 ق.م، كان هيرود أدومياً من جهة الأبوين، والآدوميون ينتمون للذخيرة السكانية لشبه الجزيرة العربية. أما عن ديانته فهي نوع من اليهودية السياسية إذ إنه ورثها عن أبيه المتهوّد أحل هيرود الشريعة اليونانية في أورشليم ووسع المقاطعة وزودها بالمسرح والملعب وأعاد بناء معابد الآلهة المحلية، بما فيها هيكل يهوه، إذ كان هيلنياً مخلصاً.

حين توفي هيرود وقسمت المقاطعة بين أبنائه ثم حكمها ناظر روماني يتبع إلى القنصل الذي يدير ولاية سورية، ثم نشب تمرد العام 66 م، وهو الذي أفضى إلى حكم عصابات لأورشليم؛ غير أن التحولات التي رافقت موت نيرون الروماني وتغيير الحكام، أخّرت استعادة الرومان لها. في العام 70م وصل تيتوس بقواته وحاصر المدينة، وبعد دخول المدينة وتحصن المتمردين في الهيكل حرق الهيكل ولاحق المتمردين وقام بإعدامهم. تهدّم المبنى ولم يبقَ منه حجر واحد، وأسواره تهدمت حتى قواعدها، عدا مقطع صغير من السور الغربي الذي صار يعرف بحائط البراق، هنا تتوقف رواية المؤرخ اليهودي يوسفيس.

في أعقاب دمار الهيكل وزوال مركزية العبادة في أورشليم حدث تغير عميق في بنية المعتقدات والطقوس اليهودية، واستلم قيادة الحياة الروحية جماعة من الحكماء يدعون الرَبَانيين الذين حددوا الأسفار الشرعية ورفضوا سبعة أسفار اعتبروها غير شرعية، كما اتخذت الديانة التوراتية هذا الاسم للمرة الأولى في القرن الثاني للميلاد، ورافق ذلك ظهور نصوص العهد الجديد (الانجيل) التي كانت أكثر تأثراً بالثقافة الهيلينية واتكأت على العهد القديم وسلسلة الأنساب التي جاء بها، أخيراً بنيت مدينة إليا كابيتولينا على يد هادريان الروماني بعد أن دمر أورشليم.

(*) مقالة منشورة في مجلة الهدف – فلسطين العدد 11 (1485)- شباط/فبراير 2020: إضغط هنا

(*) مقالة منشورة بتاريخ 15/2/2020 عبر موقع بوابة الهدف الإخبارية إضغط هنا

mohannadbari

بين أسطورتين: الإلياذة والتوراة

تروي إلياذة هوميروس قصة حصار الإغريق لمدينة طروادة الواقعة على شاطئ البوسفور شمال تركيا، حيث استمرت المعركة عشرة سنوات، وصولاً إلى تدمير المدينة وسبي من فيها، وذلك إثر وقوع الملكة الإغريقية هيلين بغرام الأمير باريس ابن ملك طروادة، ثم رحيلها معه إلى طروادة.
وقد جاءت الملحمة لتخلد الصراع التاريخي حول خطوط التجارة والسيطرة على جزر بحر إيجة وسواحل الأناضول وشمال اليونان، حيث يرى البعض أن أحداثها وقعت في منتصف القرن الثاني عشر ق.م، وأن توثيقها جرى في القرن التاسع أو السابع ق.م، رغم أن كثيرين يشككون بوجود شخصية تاريخية تدعى هوميروس الذي تنسب إليه ملحمتي الإلياذة والأوذيسة.

يستطيع قارئ الالياذة أن يلتقط مجموعة من القصص الأسطورية التي يمكن أن تعتبر صوراً أقدم للقصص التي جاءت في نصوص التوراة. فإذ تكاد بعض القصص تتطابق إلى حد بعيد، فإن بعض القصص الأخرى تتقاطع على المستوى الرمزي.

تدور القصة الأولى حول صراع بين ثلاث ربّات (حيرا ومنيرفا وفينوس) على تفاحة من الذهب، حيث تتفق الثلاثة على فصل الخلاف بينها بواسطة أول عابر سبيل، ويكون الحظ العاثر من نصيب باريس المشؤوم ابن ملك طروادة الذي يختار أن يمنح التفاحة لفينوس، إلهة الحب والجمال التي وعدته لقاء حصولها على التفاحة بأجمل إمرأة في العالم، ويترك الإلهتين الأخريين، حيرا ربة التاج والصولجان وصاحبة القوة والسلطان، ومنيرفا ربة الحكمة وإلهة الروح الأعلى المقدس، خالياتي الوفاض، دون أن يأبه لوعود الأخريين أو غضبهن، ليقع في حب الملكة الإغريقية هيلين ويخطفها من زوجها ويفتتح حروب طروادة، فيختار الحب ويترك الحكمة والخلود.

والثانية: عندما يجتمع جيش الاغريق في الميناء وهم على أهبة الاستعداد للإبحار نحو طروادة، إذ تكف الرياح عن الهبوب. وحين يتضرع الكهنة والعرّافون إلى آلهتهم ويسألونهم عن السبب، تكشف لهم الآلهة أنها ظمأة لدماء أفيجنيا ابنة أجاممنون زعيم الهيلانيين، وأن دمها هو شرطهم لإطلاق الريح. وحين يهزم الأب وينتصر المؤمن المخلص لأوامر الآلهة، يأتي بفلذة كبده لتوضع على رخامة المذبح، عندها تتدخل الإلهة ديانا وتقوم باستبدالها بظبي وترفع البنت إلى السماء.

أما القصة الثالثة، وهي قصة هيلين التي منحتها الآلهة جمالاً أخّاذاً أسرت به قلوب زعماء الهيلانيين جميعهم، حتى أصبحت زوجة الملك مينيلوس، لكن ما إن التقت بباريس ابن ملك طروادة، حتى تحيّنت الفرصة وغادرت معه إلى مدينة أبيه، لتلطخ شرفها بالعار الأبدي، ولتكون السبب في إشقاء الشعبين وإشعال الحرب بينهما.

أما القصة الرابعة فهي القدر المحتوم والأكيد، وهي السياق الناظم للملحمة منذ بدايتها وحتى آخر سططر فيها، وذلك رغم تدخل الآلهة، وما تمثله من قوة فوق أرضية في الصراع الدائر بين الشعبين، ورغم غضب الآلهة أو رضاها.

تبدو القصة الأولى أقرب إلى قصة غضب الله بعد أكل آدم من شجرة الحياة وتخليه عن الخلود والنعيم الأزليين، وما استجلب عليه ذلك من المشقة له ولنسله، في حين تبدو الثانية أقرب إلى قصة النبي ابراهيم الذي سلّم بقرار ربه بذبح ابنه اسحاق قبل أن يستبدله الله بالشاة، وفي هذه خلاف حيث تقول الرواية التوراتية أن الله أمر بذبح إسحاق في حين أن الرواية الإسلامية الشائعة تفترض أن الذبح جاء لإسماعيل، بالإضافة إلى رواية إسلامية أقل شيوعاً تقول أن الذبح لاسحاق أيضاً. أما القصة الثالثة فهي قصة حواء الخطّاءة منذ البداية، التي أغوت آدم للأكل من شجرة الحياة، لتكون السبب الأول في إشقاء البشرية، حيث اقتران جسدها بالخطيئة الأبدية. وأخيراً قصة القدر التي تمثل الناظم الأساس للرواية التوراتية التي هي أشبه بتمثيل أدوار لقصة كتبت مسبقاً.

mohannadbari

أن تقتني كتابًا في غزّة

مهند عبد الباري – كاتب وناشط سياسي /فلسطين

أن تجد كتابًا تبحث عنه في قطاع غزّة، ليس بالأمر السهل. لا يقتصر الأمر على سعر الكتاب، أو الاهتمام من عدمه لدى صاحب المكتبة، على أهمّيّة تلك الأسباب، إنّما يتعلّق بمدى توفّره في المكتبات العامّة أيضًا، بعد أن يمرّ عبر مِجْهَرَيّ الأمن والأخلاق. عندما كنت أبحث عن كتب بعينها، لم أكن أجد مبتغاي غالبًا، ما جعلني في حالة امتعاض دائم من كلّ حوار يتعلّق بالمكتبات في القطاع، وربّما لهذا السبب يأتي هذا الاحتجاج.

لا شيء لهذا الكنفاني

نويت ذات صباح أن أقرأ مجلّد القصص القصيرة للأديب الفلسطينيّ غسّان كنفاني، وبينما كنت في مكتبة الجامعة، سألت أمين المكتبة عنه. بعد أن بحث في الحاسوب الخاصّ به، رفع رأسه بتثاقل وأجاب أنّه لم يجد شيئًا لهذا الكنفاني!

لم يكن وقع الأمر مريحًا أبدًا، على الرغم من أنّه لم يسبق وأن تعثّرت بكتب لكنفاني بين رفوف الكتب. ربّما جعلني الفضول أقدم على السؤال، فغسّان يستحقّ أن نسأل عنه ونسائل المقصّرين بحقّه. لم أفقد الأمل، ذهبت إلى مكتبة جامعة أخرى. وجدت المجلّدين الأوّل والرابع من أعمال كنفاني، أمّا مجلّد القصص القصيرة كان مفقودًا، ولا توجد منه نسخة أخرى. عدت أقلّ إحباطًا، وإن لم أحصل على الكتاب الذي أريد… فقد تذكّروا صاحب أدب المقاومة بشيء ما على الأقلّ!

 

الكتب مصادرة

تمكّنت نهاية عام 2012 من السفر إلى مصر، وزرت مكتبة الأزبكيّة التي تزخر بالكتب القيّمة والرخيصة. اشتريت يومها ما يزيد على سبعين كتابًا في الفلسفة، والفكر، والأدب العربيّ، والمترجم. كان من بينها كتب تناقش الخطاب الدينيّ في العالم العربيّ. خشيت أن أواجه بعض المشكلات في نقلها إلى غزّة، مع أنّ الأمر لا يتعلّق بالوزن الزائد، فربّما يصادرونها.

قرّرت، أخيرًا، أن أنقل بعض تلك الكتب بمساعدة صديق “متديّن” ولديه سمات ممتازة لهذه المهمّة! بعد أيّام، التقيت الشابّ في غزّة. أخبرني بأنّه كان مستعجلًا، فارتكب خطأً فادحًا بأن وضع كتبي “الفاضحة” فوق مجموعة “البداية والنهاية” لابن كثير، خاصّته. عندما وصل الجانب الفلسطينيّ من المعبر وفتح الحقيبة للتفتيش اليدويّ، وقعت عين رجل الأمن على كتاب “نقد الخطاب الدينيّ” للمفكّر المصريّ نصر حامد أبو زيد، فالتقطه بيده. الكتاب الثاني لم يكن أقلّ “فضائحيّة”، عندها صرخ في وجه صديقي: “الكتب مصادرة… استغفر الله العظيم”. بعد أن أجرى لقاءات مكّوكيّة مع الضبّاط ورجال الأمن ومحاولات التبرير، وبعد أن تذرّع بقراءة هذا النوع من الكتب بغرض مهاجمة “الكفّار”، تركوها له!

 

هذه مكتبة تنشر الفضيلة

كانت زيارتي لمكتبة تتبع أحد التنظيمات الاشتراكيّة في القطاع فرصة مثاليّة للحصول على نسخة من رواية “وليمة لأعشاب البحر”، للكاتب السوريّ حيدر حيدر، إذ كان الحصول على هذه الرواية ورقيًّا أمرًا ممتنعًا عن التحقّق، بعد أن حُجبت عن مكتبات القطاع، إثر قرار حكوميّ يمنع بيعها منذ العام 2011.

كان حرص أفراد الأجهزة الأمنيّة في البحث عن الرواية لافتًا، إنّه الأمن والأمان! والمفارقة المضحكة أنّك لن تجد منهم مَنْ يصرف بعضًا من وقته الثمين في استكشاف عالم الرواية. لم تكن رواية حيدر الأولى، ويبدو أنّها لن تكون الأخيرة، ضمن قوائم الممنوعات في هذه البلاد.

بعد فترة من الزمن، زارني أحد الأصدقاء وكان يحمل في يده نسختين من رواية “جملكيّة أرابيا” للروائيّ الجزائريّ واسيني الأعرج. قدّم لي النسختين هديّة، واحدة لي والأخرى لشقيقي، وقال إنّه استطاع تهريبهما من المكتبة التي يعمل فيها، بعد أن قرّر مالك المكتبة إحراق كتب الأعرج!

أوضح لي أنّ أحد الشيوخ قدم إلى المكتبة وأخبر الموظّف الجالس خلف المكتب، أنّ مالك المكتبة يستطيع أن يبيع كتبًا ويحقّق الربح من دون أن ينشر الكفر والزندقة في مجتمع إسلاميّ! على الرغم من أنّ تلك الكلمات لم تعجب الموظف، فقد أبدى تأييدًا لكلام الشيخ. بضعة ساعات وجاء القرار من المالك: لا تبقوا على رواية واحدة لهذا الكافر، نحن مسلمون وهذه مكتبة تنشر الفضيلة فقط. هكذا تمّ الأمر!

 

16 ساعة من غياب الكهرباء

المكتبة نفسها التي يعمل صديقي فيها، نشرت عرضًا خاصًّا عبر الشاشة الزرقاء، ذكرت فيه أنّ الخصم على الكتب يصل إلى 50%. إنّها فرصتي للحصول على بعض الكتب المتوفّرة ورقيًّا. رتّبت موعدًا مع أحد الأصدقاء، وتوجّهنا إلى المكتبة سويًّا. بعد أن قلّبت عناوين المكتبة واحدًا فواحدًا، اخترت ثلاثة كتب، وتوجّهت بها إلى المحاسب. كان السعر صادمًا، على الرغم من الخصم المُعلن عنه!

تكرار مثل هذا أدّى إلى أن آلف الكتب الإلكترونيّة.

على الرغم من توفّر الكتب الإلكترونيّة بشكل أكبر وأسلس من تلك الورقيّة، وهذا ما يسمح بتجاوز عائق السعر، إلّا أنّ عائقًا آخر يبرز في المقابل: التيّار الكهربائيّ المفقود. إنّ قطع الكهرباء لأكثر من 16 ساعة يوميًّا عن منازل الغزّيّين، يُفقد هذا البديل جدواه. الكتاب الإلكترونيّ يموت إذا غابت الكهرباء، إنّه يموت فعلًا.

 

كتب الـ USAID الثمينة

تفاجأت مرّة بكمّيّة كتب جديدة وصلت مكتبة الجامعة، وبطبعات ثمينة، تحديدًا في قسم الروايات. التقطت إحدى هذه الروايات وقلّبت صفحاتها. أُلْصِقَ على الصفحة الأولى شعار كُتِبَ فيه: “إهداء من الـUSAID “. لم يكن الأمر مريحًا على الإطلاق. مع ذلك، استعرت روايتين، قلت إنّ الأمر يستحقّ المغامرة. كانت الروايتان على قدر كبير من التشويق وجماليّة الأسلوب، فالتهمتهما بنهم.

لم تفارقني الفكرة التي هجست بها منذ اللحظة الأولى؛ إنّه “الخطر الأحمر”، أو “محور الشرّ”، كما يفضّل الأميركيّون تسمية أعدائهم. حتّى هذا اليوم، ما زلت على قناعة بأنّك لن تجد ضمن هذه “الهدايا” رواية تخبرك بما فعلته الولايات المتّحدة في اليابان، مثلًا، من أجل حماية “الحرّيّات” حول العالم!

 

الكتب مضيعة للوقت!

حصرتني نوعيّة الكتب المتوفّرة في مكتبة الجامعة في استعارة بعض الروايات العربيّة والمترجمة. اخترت مرّة رواية لم أعد أذكر اسمها، توجّهت بها إلى مكتب الموظّف الخاصّ بتسجيل الكتب المستعارة. التقط الموظّف الرواية وألقى نظرة سريعة على العنوان، وباشر بعمليّة التسجيل الإلكترونيّ.

نظر إليّ، ثمّ قرّر أن يهبني نصيحته: “يا ابني، هذه الكتب بلا فائدة، من الأجدر بك أن تستثمر وقتك في شيء مفيد!”

على الرغم من غرابة الحالة، إلّا أنّني لم ألتفت إلى تلك النصيحة، ولم أعر الرجل وآراءه أيّ اهتمام. أردت أن أتقدّم بشكوى ضدّه حينها، لكنّني لم أفعل!

 

(*) مقالة منشور عبر موقع فسحة بتاريخ 28/5/2018 : إضغط هنا

 

mohannadbari

الحركة الطلابية: هل تنبعث من جديد؟

و”انتصرت إرادة الحركة الطلابية” هذا كان عنوان البيان رقم (3) الذي صدر عن الحركة الطلابية في جامعة الأزهر بمدينة غزة، بعد اعلان الحركة التوصل إلى اتفاق ينهي الأزمة مع إدارة الجامعة وفك الاعتصام الذي جاء احتجاجاً على قرار الجامعة فرض رسوم حد أدنى (9) ساعات على جميع الطلبة، وهو الأمر الذي لم تقبل به تلك الأطر جميعها.

 

وكانت الأطر الطلابية في الجامعة أعلنت الاضراب المفتوح داخل أروقة الجامعة، بعد إقدام الإدارة على طرد طلبة كلية الهندسة الزراعية من غير الملتزمين بقرارها الأخير والمتعلق بمنع الطلبة من دخول قاعات الامتحانات بدون تسديد رسوم حد أدنى (9) ساعات، صباح يوم الخميس الموافق 22 مارس العام 2018، في أولى أيام الامتحانات النصفية للفصل الدراسي الثاني. هذا ويشهد قطاع غزة تدهوراً كبيراً في الأوضاع الاقتصادية، حيث وصل عدد غير المسجلين للفصل الدراسي الحالي وارتباطاً بذلك القرار إلى سبعة آلاف طالب يشكلون حوالي 50% من مجمل طلبة الجامعة.

في أول تعقيب لها على اعلان الأطر الطلابية في الجامعة الاعتصام المفتوح، اتهمت إدارة الجامعة عبر تصريح صدر عنها جموع المعتصمين بعرقلة سير الامتحانات والتشويش المتعمد على قاعات الامتحانات، واستمرت في التأكيد على ضرورة التزام الطلبة بقرارها الأخير، في الوقت الذي تجاهلت فيه قيام أفراد الشرطة بدعوة منها، بالاعتداء على المعتصمين، واعتقال أحد عشر طالباً منهم، وتحويلهم إلى مراكز الشرطة خارج الجامعة. هذا وبررت الجامعة قرارها الأخير بالأزمة المالية التي تشهدها الجامعة وعدم التزام الطلبة بتسديد الرسوم الدراسية التي تراكمت ووصلت إلى حوالي مليون دينار أردني.

في أعقاب فشلها في فرض القرار الأخير، ونجاح الحركة الطلابية في التصدي لها، صدّرت الجامعة تصريحاً صحفياً أعلنت فيه الاتفاق مع الأطر الطلابية ينهي الخلاف القائم. ويقضي الاتفاق بتسديد الطالب حد أدنى (3) ساعات فصلياً كي يسمح له بالدخول إلى قاعات الامتحانات، وهو الاقتراح الذي كانت الأطر الطلابية قد تقدمت به لحفظ حق الطلبة في استكمال العملية التعليمية، في الوقت الذي تتجاوز فيه مبررات الجامعة المتعلقة بتنظيم عملية التسجيل. وفي مفارقة ضدية، فإن الجامعة التي سعت لحجب فرصة التعليم عن حوالي 50% من الطلبة، فإنها افتتحت تصريحها المذكور أنها تؤمن بدور الجامعة تجاه المجتمع الفلسطيني في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وأنها ستبقى حانية على أبنائها الطلبة!! وبطبيعة الحال، فإن هذا النوع من التصريحات ليس جديداً على إدارات جامعات القطاع.

جهاز شرطة الجامعات التابع لوزارة الداخلية في قطاع غزة، بدوره كان له الكلمة المعززة بالهراوة وبوط رجل الأمن، فقد تدخلت الشرطة واعتدت على الطلبة المعتصمين داخل الحرم الجامعي، وكان مشهد الضابط ذي الهراوة الذي يهاجم الطلبة في محاولة للوصول إلى أيٍ منهم، يعبّر عن العقلية الأمنية التي تحتل رأس النظام في القطاع، وهو ما خبره سكان القطاع جيداً، فقد كانت الشرطة نشرت عناصرها داخل الجامعات منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة منتصف العام 2007.

بعد نجاح الاعتصام بالاستمرار رغم القمع، حاولت إدارة الشرطة إلقاء المسؤولية عنها، وصدّرت بياناً ذكرت فيه أن “د. مروان الأغا نائب رئيس جامعة الأزهر للشؤون الإدارية والمالية، اتصل بمدير شرطة أمن الجامعة، وأبلغه أن إدارة الجامعة تطلب من الشرطة حماية الجامعة والمحافظة على النظام”. وبررت الشرطة في ذات البيان، ما أسمته قيام الشرطة بواجبها، أي بقمع الاعتصام بالقوة، بأن بعض الطلبة قاموا بتصرفات غير لائقة بأن اعتدوا على بعض الموظفين، وأعاقوا سير الامتحانات، وتهجموا على عناصر الشرطة.

تقنية التصوير عبر الهاتف المحمول ومواقع التواصل الاجتماعي، كانت كفيلة بنشر فيديوهات القمع خلال بضعة ساعات، الأمر الذي تبعه تفاعل كبير من قبل الأوساط الطلابية والثقافية، وتحول القضية إلى قضية رأي عام، تصاحب ذلك مع إدانات واسعة من قبل جملة الفعاليات الوطنية والمؤسسات الحقوقية لذاك الجرم الخطير، مع تأكيد الجميع على إدانة استخدام القوة في التعامل مع التجمعات السلمية، وقدسية الجامعات وحرمتها. الشرطة في ذات البيان الآنف الذكر، وبطريقة مثيرة للسخرية، ذكرت أنها اتخذت موقع الوسيط أو “المختار”، وجمعت بين الأطر الطلابية وإدارة الجامعة في محاولة للوصول إلى حل للأزمة!

الحركة الطلابية هل تنبعث من جديد؟

رغم حجم التباينات على المستويين السياسي والأيديولوجي، وحالة الاستقطاب التي تشهدها الساحة الفلسطينية بين الحركتين المنقسمتين فتح وحماس، التزمت الأطر الطلابية جميعها بالانحياز إلى مصلحة جموع الطلبة، والتصدي للقرار غير المسؤول الذي اتخذته إدارة جامعة الأزهر. وفي بيان جمع كل مكوناتها، أدانت الحركة الطلابية استقواء إدارة الجامعة بالشرطة وعناصر الأمن على الاعتصام المطلبي والسلمي. هذا وأصدرت الحركة ثلاثة بيانات متتالية جمعت كل أطياف الحركة الطلابية، وصولاً إلى بيان اعلان الانتصار. كذلك التزمت تلك الأطر بفعاليات الاعتصام، وكل تبعاته من مواجهة صدامية مع كل من إدارة الجامعة ورجال الشرطة.

وكانت الحركة الطلابية في قطاع غزة، مرت بتجربة عصيبة منذ اندلاع أحداث الانقسام الفلسطيني منتصف حزيران العام 2007، إذ هيمنت لغة الحسم الأمني لدى الحكّام الجدد في التعاطي مع القضايا النقابية والوطنية، الأمر الذي أضعف من دور الحراكات الشعبية والنقابية بما فيها الطلابية. إدارات الجامعات في القطاع وتحت مبرر النأي  بالجامعات عن أحداث الانقسام، وهو مبرر ساذج بطبيعة الحال، عطلت العملية الديمقراطية وأرجأت انتخابات مجالس الطلبة إلى اشعار آخر، ليس له آخر، وفرضت وقف الأنشطة الطلابية تحت طائلة المحاسبة للمخالفين. كل ذلك زعزع من حضور الحركة الطلابية وجمّد الدماء فيها، ولم يسمح لها بالقيام بدورها الوطني والديمقراطي والمطلبي الذي يقع ضمن مسؤولياتها، وسمح لإدارة الجامعات أن تتلاعب بممثلي الحركة الطلابية وتمنح الشرعية وتسحبها تبعاً لأهوائها ورغباتها.

لقد شكل النصر الأخير في جامعة الأزهر لحظة مهمة في تاريخ الحركة الطلابية في قطاع غزة، وإن لم يكن الأول من نوعه عبر تاريخ نضالاتها، إلا أن حجمه وآليات العمل التي جمعت كافة مركبات الحركة الطلابية وصولاً للحظة الأخيرة، ومواجهة كلا الخصمين: إدارة الجامعة والأجهزة الأمنية، وإجبار الجامعة على التراجع، بعد أكثر من 12 عاماً على عقد آخر انتخابات طلابية، وتحديداً في الوقت الذي يستعاد فيه دور الحراكات الشعبية في مواجهة الاحتلال وضمن مسيرات العودة على طول حدود القطاع،  كل ذلك يمنح هذا الحراك فرادة وميزة إضافية.

وفي الوقت ذاته تستعيد الحركة الطلابية الثقة في حضورها ومدى تأثيرها، فإنه يفتح الباب واسعاً أمام التساؤلات حول دمقرطة الأجسام التمثيلية، وأهميتها على طريق النضال المطلبي والوطني.

mohannadbari

مين لسّا بالبلد؟

مهند عبد الباري – كاتب وناشط سياسي /فلسطين

تغيّرت مفاهيم الناس عن الهجرة: أُدينت في السابق حين كانت تعني الهروب من تحمّل المسؤوليّة النضاليّة، أمّا اليوم، فأمست تعني البحث عن الذات بعد انسداد الأفق، وصار يُبَرّر لمن يتّخذ قرار الرحيل. تسبق الهجرة الفيزيائيّة هجرة للنفس وشعور بالاغتراب الذاتيّ، ويكون الاغتراب حين يفقد المرء المعاني التي تربطه بمحيطه. محاربة الهجرة بحث في المعنى الاجتماعيّ، أي في الوجود الاجتماعيّ.
مهنّد عاهد

كتبت قبل فترة وجيزة في حسابي على فيسبوك منشورًا سريعًا يقول “مين لسّا في البلد؟” تعبيرًا عن تساؤل لحظيّ وحالة عابرة، لكن ما لم يخطر في بالي إطلاقًا، أنّني سأكتشف المزيد من الأصدقاء الذين رحلوا بهدوء.

تنامت ظاهرة هجرة الشباب الفلسطينيّ في قطاع غزّة، وصارت همًّا عامًّا يلمسه الجميع، حتّى مع عدم توفّر إحصاءات رسميّة توضح أعداد المهاجرين منهم فعليًّا. ما إن تُطرح قضيّة الهجرة حتّى يشتعل الحوار بين معارض بالمطلق ومؤيّد لبحث الشباب عن أفق، مع خفوت الصوت الممانع والداعي إلى البقاء. يبدو أنّ هذا ليس غريبًا في ظلّ الواقع السياسيّ الفلسطينيّ الذي ابتُلينا به، وما جلبه لنا طرفا الانقسام. تُساق المبرّرات، وهي محقّة، إلّا أنّ السؤال الذي يبقى يلوح في الأفق: هل الهجرة هي الحلّ؟

منذ بلغت الثامنة عشرة من عمري، وصرت مؤهّلًا، وفق القانون، للمشاركة بصوتي في العمليّة الانتخابيّة، وهو ما كان طموحًا لي ولكلّ أبناء جيلي، لم تُنَظّم انتخابات واحدة، ولا حتّى طلّابّية في الجامعة، وهذه صارت سمة المرحلة. كان عليّ أن أنتظر حتّى عام 2011.

في الخامس عشر من آذار عام 2011، خرج الشباب الفلسطينيّ إلى الشوارع في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة، على السواء، ورفعوا شعار إنهاء الانقسام، ودعوا الطرفين المنقسمين للعودة إلى الشرعيّة الديمقراطيّة، إلّا أنّ المحاولة التي استعادت حضور الشعب، ولو لوهلة، وألهبت المشاعر بعد أن نزل الآلاف إلى الشوارع، لم تتح لها الفرصة كي تنمو وتزهر، بل عملت القوى الأمنيّة المنقسمة، مجتمعة، على كبحها، ومحاولة خنقها في مهدها، وهذا لن يكون غريبًا على المنقسمين.

أذكر جيّدًا كيف لاحقنا رجال الأمن من ذوي الوجوه العابسة، بعصيّهم الغليظة، بين الزقاق والآخر، وكيف اعتقلوا وعذّبوا من وقع تحت أيديهم. بعدها لم تخلُ جلسة مع الأصدقاء من مناقشة حالة الإحباط والاغتراب التي يعيشها كلّ واحد منّا، والهجرة باعتبارها سبيل الوصول إلى عالم الحرّيّات والديمقراطيّة.

العدوان الإسرائيليّ الأخير كان نقطة تحوّل فارقة، فبعد أن امتلأت المدارس بالمهجّرين من ديارهم قصرًا، صار لزامًا على الشباب أن يأخذوا زمام المبادرة. تطوّعت بصحبة مجموعة من الشبّان في أحد هذه الملاجئ، وهو مدرسة تديرها وكالة الغوث في مخيّم الشاطئ للّاجئين الفلسطينيّين، وكانت مهمّة الفريق التخفيف عن الأطفال قدر المستطاع، بأن نمنحهم لحظة فرح وسط ركام المباني ورائحة الموت المنبعثة من كلّ جانب. في إحدى المرّات، حاولت عبثًا إلهاء الأطفال حولي عن صوت الطيران الحربيّ، وطلبت إليهم أن يطلقوا صرخة واحدة. ارتسمت الضحكات على الوجوه حين مالت الكفّة إلى جانبهم، فتفوّقت صرخاتهم على صوت الموت المحلّق. إلّا أنّ طائرة حربيّة حسمت النزال أخيرًا بصاروخ دوّى في مكان ليس ببعيد، فانقلبت معه صرخات الأطفال إلى نحيب وبكاء. في لحظة الانفجار شعرت كم هو الإنسان بلا قيمة، ونظرت نحو السماء متتبّعًا المكان الذي تصاعدت منه الأغبرة والدخان، ظننت أنّني في حلم. أيقظتني صيحات الأطفال الباحثين عن أمّهاتهم وسط الزحام. تسمّرت مكاني لا أعرف وجهة أذهب نحوها، فأنا أقف داخل ملجأ المؤسّسة الدوليّة الأكثر أمنًا وسط هذا الجنون! ليس ثمّة مكان آمن، حتّى الملاجئ صارت أسماء محفورة في الذاكرة، بين قوائم المجازر الإسرائيليّة. وسط هذا الفزع شاهدت كيف كان الآباء حيرى يكتمون غضبهم وآلامهم، حين أدركوا أنّهم ما عادوا قادرين على وهب الحماية لأطفالهم.

لفتني قدر التفاعل مع منشوري السريع الذي كتبت، وكأنّ الجميع اتّفق على العزم على الرحيل، غير أنّ الذي شدّني أكثر من غيره، أنّني اكتشفت أصدقاءً كثرًا رحلوا بهدوء.

لؤي، صديق مثابر وطموح، قرّر، سابقًا، ألّا يغادر البلد وأن يبقى في المنزل الذي يحفظ رائحة والده الراحل. لم يكن ثوريًّا ليرفع شعارًا من نوع: “النضال من الداخل”، لكنّه يحبّ غزّة وميناءها البحريّ الذي جمعتنا فيه أطيب السهرات، وفي كلّ مرّة يدور النقاش حول الهجرة، كان يسأل سؤاله المعتاد: “وين رح تلاقي مفتول زاكي بأوروبّا؟” بعد أن أنهى دراسته الجامعيّة عمل في مخبز بعشرين شيقل يوميًّا، أي خمسة دولارات، وحين ضرب معه الحظّ، كما كان يقول، التحق في بطالة لثلاثة أشهر مع إحدى المؤسّسات، كان سعيدًا أنّه عمل بتخصّص قريب إلى تخصّصه الجامعيّ هذه المرّة، لكنّه لم يكن محظوظًا، كما كثيرين في غزّة، وانتهى عقد عمله، ولم يجد سبيلًا إلى التجديد. انقطعت أخباره، وجاء ليعلّق على الحالة التي ذكرتها أعلاه، وأعلن أنّه ترك قلبه في غزّة، وصار “برّا” في دول الشمال الغنيّ، في القارّة العجوز.

أمّا ميّ، الصديقة التقدّميّة، التي كانت تحدّثني عن الصمود في ما تبقّى من أرض فلسطين، غادرت هي الأخرى! حدث ذات مرّة أن كانت تتنزّه مع بعض الأصدقاء على شاطئ البحر، المنفذ الذي يكاد يكون الوحيد في غزّة، حين اعتقلت عناصر الشرطة المجموعة، واعتدت عليهم بالألفاظ النابية والضرب المبرح، واتّهمتهم بالاختلاط في مكان عام! التهمة التي لم تعد غريبة بعد ذلك! خرجت ميّ من التجربة مختلفة كلّيًّا. اليوم، غادرت البلد، كما لم يبقَ من أصدقائها من يحدّث بالقصّة، فقد توزّعوا في بلدان العالم: بعضهم ترك غزّة منذ وقت طويل، وبعضهم الآخر تركها قبل أشهر قليلة.

تكرّرت القصّة مرارًا مع آخرين، وبأشكال مختلفة، ومن واجه قسوة رجل الأمن المتزمّت، كان مصيره شبيهًا تمامًا.

تغيّرت مفاهيم الناس عن الهجرة: أُدينت في السابق حين كانت تعني الهروب من تحمّل المسؤوليّة النضاليّة، أمّا اليوم، فأمست تعني البحث عن الذات بعد انسداد الأفق، وصار يُبَرّر لمن يتّخذ قرار الرحيل. تسبق الهجرة الفيزيائيّة هجرة للنفس وشعور بالاغتراب الذاتيّ، ويكون الاغتراب حين يفقد المرء المعاني التي تربطه بمحيطه. محاربة الهجرة بحث في المعنى الاجتماعيّ، أي في الوجود الاجتماعيّ.

كلّ مرّة تذكر وسائل الإعلام أعداد المهاجرين المفقودين في بحر المتوسّط، أشعر أنّ جزءًا من الحقيقة قد غاب، فهم ليسوا أرقامًا صمّاء، بل قصص من لحم ودم، كلّ واحدة منها تحمل صنوفًا متنوّعة من الوجع ومرارة الحياة، ولا تخلو من أمل.

هل الهجرة هي الحلّ؟ إنّ هذا يتنافى مع ميل الناس الطبيعيّ نحو تأكيد حضور الذاتيّ عبر الجماعة الوطنيّة. في الماضي، أطلق الفلسطينيّون منظّماتهم الكفاحيّة التي مثّلت تطلّعاتهم، فأعادوا للذات الجمعيّة مكانتها وأعطوا للوجود معنى. اليوم، بعد تراجع القوى الممثّلة لطموح الناس، وتماهي المعنى مع اللا معنى، فإنّ المهمّة الملقاة على عاتق الشباب تكمن في القدرة على الخروج من حالة الإحباط واستعادة زمام المبادرة والفعل.

كانت تجربة الخامس عشر من آذار عام 2011 بارقة أمل لجيلنا، أمّا اليوم، فأسئلة البقاء أو الرحيل عن البلد باتت أثقل من أيّ وقت مضى.

(*) مقالة منشور بتاريخ 31/12/2016 عبر موقع فسحة: إضغط هنا

mohannadbari

انتخابات المجالس البلدية.. هروب للأمام

انتخابات المجالس البلدية.. هروب للأمام
مهند عاهد

أعلنت حكومة الوفاق الوطني في 21 حزيران/ يونيو الماضي، عزمها إجراء انتخابات المجالس المحلية في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول المقبل. وكان رد حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، إيجابياً.
الفصائل الفلسطينية الأخرى رحبت بدورها بالقرار واعتبرته خطوة صحيحة على طريق تحقيق المصالحة الفلسطينية. يذكر أن انتخابات البلدية جرت في الضفة الغربية منفردة في العام 2012، بعد أن رفضت حركة حماس إجراءها في غزة بدعوى غياب التوافق الوطني.
أغلقت مراكز تسجيل الناخبين مقارها، في الساعة الرابعة من مساء يوم الأربعاء الموافق 27 /7/ 2014، حيث وصلت نسبة المسجلين 89.8٪‏، 76.8 ٪‏ في غزة والضفة الغربية على التوالي، من الذين يملكون حق الاقتراع. وهي نسبة كبيرة تعكس مدى حرص الفلسطينيين على متابعة قضايا الشأن العام. ويبلغ عدد المجالس البلدية والقروية في قطاع غزة والضفة الغربية 416 مجلساً، منها 25 مجلساً في قطاع غزة.
وفي استطلاع للرأي أجراه مركز العالم العربي للبحوث والتنمية “أوراد”، نفّذ في 21 تموز/يوليو 2016، بينت نتائجه أن 54٪‏ من سكان الضفة “هائمة” تبحث عن قائمة مقنعة تصوت لها. فبقدر ما تشير هذه النسبة إلى اهتزاز الثقة الشعبية في الأطر السياسية التقليدية، فإنها تفتح الأفق أمام هذا الجميع لتقديم خيارات جديدة يمكن أن تلبي رغبات الناس وبالتالي تستحوذ على أصواتهم.
مع توقيع جميع الحركات والأحزاب الفلسطينية “وثيقة الشرف”، زالت الكثير من الشكوك التي أبداها السياسيون والمواطنون على حد سواء، والمتعلقة بموعد عقد الانتخابات البلدية في مناطق حكم السلطة الفلسطينية.
وقد تضمن الميثاق 24 بنداً، نص فيها على احترام الفصائل لقانون الانتخابات والحريات العامة، وضمان سير الانتخابات بالشكل المناسب واحترام نتائجها. وانعكست الأجواء الإيجابية بالتصريحات التي أطلقتها الفصائل والتي عبّرت عن حجم الارتياح لما آل إليه التوافق.
حري بالذكر أن لجنة الانتخابات رعت ميثاق شرف مشابهاً بين الفصائل الفلسطينية إبان الانتخابات التشريعية الأخيرة عام 2006.

حماس .. الرابح الأكبر
فاجأت حركة حماس الجميع بموافقتها على عقد الانتخابات المحلية في كل من غزة والضفة الغربية، وفي بيان صادر عنها أكدت الحركة على أهمية المشاركة في إجراء الانتخابات المحلية، وأنها ستعمل على إنجاح الانتخابات وتسهيل إجرائها على أساس توفير ضمانات النزاهة وتكافؤ الفرص واحترام نتائجها، كما أكدت على أهمية العملية الديمقراطية الفلسطينية من خلال إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني الفلسطيني.
وفي مداخلة له، خلال جلسة حوارية نظمها مركز د. حيدر عبد الشافي للثقافة والتنمية، بغزة، بعنوان “انتخابات المجالس المحلية بين الضرورات والتحفظات”، قال القيادي في حركة حماس، سامي أبو زهري، إن سبب تأخر رد حركته هو انتظار الإيضاحات على بعض الاستفسارات والتعهد بضمان احترام النتائج التي ستفسر عنها الانتخابات.
وفي نفس الصدد رأى المحلل السياسي، طلال عوكل، أن حماس رابحة في كل الأحوال، بل هي الرابحة في كل الأحوال ذلك أن النتائج مهما كانت فإنها لن تمس أو تنال من سيطرتها على قطاع غزة.

اليسار .. قائمة موحدة للانتخابات
كشف عضو اللجنة المركزية العامة للجبهة الشعبية، ومسؤول فرعها في قطاع غزة، جميل مزهر، أن القوى الديمقراطية الخمس (الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وحزب الشعب وحزب فدا والمبادرة الوطنية الفلسطينية) بصدد تشكيل قائمة موحدة للدخول في الانتخابات البلدية.
وأضاف: “الجبهة كانت الأكثر نداءً للانتخابات التشريعية والرئاسية والنقابية والطلابية، فالانتخابات ضرورة وطنية واستحقاق دستوري، وهي خطوة قد تمهد الطريق نحو تحقيق المصالحة الفلسطينية”.
وأكد أن الهدف من هذه القائمة هو كسر حالة الاستقطاب الحاد وثنائية حماس وفتح، وتأسيس “تيار ثالث”، وخلق نوع من التوازن في الساحة الفلسطينية.
ولفت إلى “أن الفصائل تقوم ببحث بنك أسماء الكفاءات المهنية والتقدمية المطروحة، وأن الأيام القادمة ستشهد الإعلان عنها”، في حين يعتقد البعض أن نسبة 8٪‏ للحسم في القائمة الواحدة، هي التي فرضت على الفصائل الديمقراطية التوجه نحو القائمة الموحدة، وخشيتها من عدم القدرة على حصد المقاعد إذا ما كانت مشتتة.

فتح والخيارات الصعبة
منذ اللحظات الأولى على إصدار حكومة الوفاق الوطني قرار الانتخابات البلدية، دارت التساؤلات حول قدرة فتح على النزول بقائمة واحدة، ومنافسة حركة حماس. فـ “فتح” يراها البعض في أسوأ أحوالها بعد انسداد الأفق أمام مشروع المفاوضات الذي تحمله، بالإضافة إلى عجز الحركة عن عقد مؤتمرها السابع. كذلك الأمر بعد الخلاف الذي نشب بين قطبي الحركة (محمد دحلان ومحمود عباس)، ووصل بمركزية الحركة الحال إلى إصدار قرار فصل بحق دحلان وتحويله إلى النائب العام.
الناطق باسم حركة فتح، فايز أبو عطية، في ندوة نظمها مركز الدكتور حيدر عبد الشافي، قال إن حركته ستشارك في الانتخابات انطلاقاً من إيمانها بأهمية عقد الانتخابات الديمقراطية، وبأن الحركة ستخوض الانتخابات في قائمة واحدة.
في حين قال القيادي المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، عبر فيديو نشره عبر صفحته على الفيسبوك، إن الانتخابات البلدية فرصة لتستعيد حركة فتح مكانتها وقوتها ووحدتها وإنه سيلتزم بقوائم الحركة ما دامت هذه القوائم قائمة على أسس من “المشاركة الفتحاوية” من الكادر لاختيار من يمثلهم.
من جانبه، علّق الناشط الشبابي محمد نتيل، 26 عاماً، أن “الانقسام داخل الحركة ستكون له آثار كارثية، وفقط بالوحدة يمكن المنافسة وتحقيق الفوز في الانتخابات”.
وفي سياق التنافس بين التنظيمين الأكبر، حماس وفتح، يرى المحلل السياسي، أكرم عطا الله، أن حماس “وضعت حركة فتح أمام خيارات صعبة، إما أن تفوز وتشارك في عبء القطاع المحاصر وتتحمل إلى جانبها جزءاً من الأزمة، وإما أن تتهرب من الانتخابات أو تقرر الهروب والخسارة بإرادتها كما حركة حماس”.

المرأة الفلسطينية في مواجهة ثقافة الإقصاء
يضع النظام الانتخابي الحالي الذي أقرته لجنة الانتخابات المركزية، نسبة 20٪‏ حداً أدنى لتمثيل المرأة في المجالس المحلية.
وبحسب قانون “الكوتا” تتوزع مقاعد القائمة الواحدة على الشكل التالي: مقعد للمرأة في أول أربعة مقاعد، ومقعد آخر في المقاعد الخمسة التالية، ومقعد ثالث في المقاعد الستة التالية، وهكذا.
وبالرغم من إبداء العديد من الناشطات النسويات الرضى والقبول بهذا القانون إلا أن هناك من اعتبرنه يمنح الفرصة لبعض القوائم كي تضع المرأة في “ذيل” القائمة.
وفي لقاء مع رانيا السلطان، منسقة مشروع “إحنا معك إنت تقدري” المنفذ من قبل اتحاد لجان المرأة الفلسطينية بالشراكة مع لجنة الانتخابات المركزية، قالت: “لا توجد ثقة بقوائم الأحزاب الفلسطينية، لأنها لا تؤمن بدور المرأة ولا بحقوقها، حيث لا يتم اختيار المرشحين على أساس الكفاءة”.
وتضيف السلطان:” إن النساء بحاجة إلى قائمة تعبر عن طموحاتهن للوصول إلى مواقع صنع القرار، وتسمح لهن بطرح همومهن وتسليط الضوء على قضايا المرأة الفلسطينية”. وجدير بالذكر أنه عقد قبل عدة أيام اجتماع للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، وجرى طرح قضية القائمة النسوية. وعلى الرغم من أنه لم يتم التوافق عليها وإقرارها حتى اللحظة، مع ذلك تعتقد السلطان، أن قائمة المرأة إذا كتب لها أن تكون، ستواجه العديد من الصعوبات في المنافسة أمام الثقافة التقليدية السائدة.

الشباب بين الأمل وغياب الرؤية
تباينت آراء الشباب الفلسطيني بين المؤيدة للمشاركة في الانتخابات البلدية والنزول بقائمة شبابية تمثلهم، وبين طرف ثان يؤيد المشاركة في الانتخابات ويدعم الأحزاب السياسية والقوائم المرتبطة فيها، وبين آخرين ينتظرون أن تكشف الأيام القادمة عن البرامج الانتخابية، التي ستحدد ما إذا كانوا سيشاركون أم لا. بعض الناشطين من الشباب بدأوا جدياً بالتحرك والتواصل بهدف بناء قوائم تمثلهم وتعبّر عن تطلعاتهم.
الناشط الشبابي، سعيد لولو، 29 عاماً، أخبرنا أنه: “لا توجد كوتا تنصف الشباب وحقوقهم، وتضمن لهم تمثيلاً في مواقع صنع القرار، نحن نعاني التهميش في قوائم كبار السن، ولا نثق في الفصائل الفلسطينية بعد هذه التجربة المريرة، لذلك ارتأينا النزول بقائمة شبابية على مستوى قطاع غزة، ونحن نعمل الآن على بلورة طرحها. والنقطة الأهم أن قائمتنا ستكون بدون أجندة سياسية”.
من جهتها، الشابة لبنى زين الدين، 25 عاماً، قالت: “إذا ما صدقت الفصائل وسمحت بإجراء الانتخابات، ستكون هذه المرة الأولى لي التي أشارك فيها. وهو حق حرمت منه”. أما عن الجهة التي ستمنحها صوتها، فتقول: “سأصوت لقائمة الشباب، لأن الشباب لديهم الكفاءة والقدرة على قيادة المجالس البلدية وحتى التشريعية، ويمتلكون رؤى جديدة للوضع القائم تهدف إلى تغيير الواقع الحالي الذي نتوق إلى تغييره”.
أما الشاب خالد شهاب، 24 عاماً، فكان متشائماً إزاء الأمر، حيث قال: “لا أثق في الحركات السياسية الفلسطينية ولا في الحركات الشبابية، لأن الأولى سبب الكارثة التي نعيشها، والثانية لا تمتلك رؤية عملية لتجاوز الحال”.
يذكر أن قانون الانتخابات يضع حداً أدنى لمرشح انتخابات المجالس البلدية، 25 عاماً فما فوق.

 

مقال منشور في موقع العربي الجديد بتاريخ 6/8/2016

mohannadbari

العقل زينة!

تخيلوا معي أيها الأصدقاء ما الذي حدث بالأمس بينما كنت جالساً في المقعد الأمامي داخل سيارة أجرة بجوار السائق، والذي تبدو عليه علامات التدين، وذلك عندما كان صوت رجل في المذياع يحكي القصة التالية: “عاش رجل فقير في منزل غاية في البؤس، وكان المنزل ” ينغل” -موضحاً أن هذه الكلمة غزاوية- بالفئران، وفي أحد الأيام ضجر أحد أصدقاء صاحب المنزل من ذلك، فعرض عليه أن يأتي بقطة شرسة تلاحق تلك الفئران وتنظف المنزل. وعلى الرغم من ان الرجل يحب النظافة إلا أنه رفض ذلك العرض خشية من أن تهرب الفئران إلى منازل جيرانه وتقيم عندهم، فيكون قد آذاهم… حتى نهاية ما قاله. وقد أتبعَ المقدّم بعدها بذكر حديث من السيرة النبوية عن فضل الجار، وكيف يجب أن نتخذ من هذا الرجل نموذجاً يحتذى!”. في تلك اللحظة أطلقت ضحكة لم أقدر على كبحها، فكيف لعاقل أن يصدق مثل هذه القصة؟ ثم التفت إلى جهة السائق وقلت له بالله عليك، هل تصدق هذه القصة؟ عندها نظر إلي وأطلق ضحكة كان يحاول جاهداً إخمادها، وقال “لا والله”. في زحمة الضحك تدخل راكب شاب من الخلف وطلب أن يرفع السائق درجة الصوت، واتبعها باستغفار الله. كانت السيارة قد وصلت إلى مقصدي فنزلت وأنا انظر إلى ذاك الشاب المسكين، ولم استطع أن أكف عن الضحك.