Category Archives: غير مصنف
حين يغيب المشروع الوطني التحرري والديمقراطي الذي يؤطر أحلام الناس ونضالاتهم، يكف المجتمع عن أن يكون بنية واحدة ينتصر لجميع مركباته وشرائحه وتكف الدولة عن أن تكون وحدة سياسية جامعة تعبر عن تطلعات مواطنيها وتحدد مصيرهم المشترك في مواجهة عالم الرأسمالية الاحتكارية العنيفة، ويتحول الناس في فهمهم لكيانهم السياسي والاجتماعي إلى تصور جديد يرتكز على الفرد باعتبار أن المجتمع هو مجموع أفراده حيث الغلبة للقلة التي تحكم وتمتلك. وفي زحمة الاحتفالات بالحريات والانجازات الفردية لا يبقى للفرد لتأكيد حضور الذات سوى السعي الدءوب لتحقيق النموذج الأمريكي للحقوق السياسية دون الاقتصادية، فالأقوى يأكل والباقي يجوع. أما المآل الذي لا مفر منه في الشق الجنوبي من العالم، فهو المزيد من الاغتراب والعجز والاخفاقات الحتمية. وفي عتمة التنمية العرجاء يعود المفقرون القهقري إلى التشكيلات القبلية والطائفية السابقة على الدولة الحديثة كملاذ أخير للاحتماء من عالم متوحش ويسود الظلام.
مشاركتي في مبادرة مناظرة على قناة الجزيرة، والتي اقيمت في العاصمة المغربية الرباط. حيث كانت الأطروحة:”حرية التعبير ليس لها قيود”
المنهاج الفلسطيني وفوضى الهوية
أعتقد ان انتقاء موضوعات كتاب التاريخ للصف السادس على هذا النحو بالذات يعكس فوضى الهوية التي مرت بها السلطة الفلسطينية عندما جرت صياغة المنهاج التعليمي الفلسطيني، حيث نلحظ امتزاج الولاءات المتناقضة وتأخر الأولويات والركون لحالة من التعدد والانتقائية من الماضي العربي الاسلامي من جهة والحاضر العربي الفلسطيني من جهة ثانية وكل ذلك في آن واحد.
هنا تطل مجموعة من التساؤلات للواجهة: ما هو شكل الهوية الذي تأمل وزارة التربية والتعليم تشييده وتعزيزه؟ وماذا يُنتظر من طالب أنهى هذا الكتاب؟ ولماذا تجاهل الكاتب ذكر اسم فلسطين ولا لمرة واحدة في فهرس الموضوعات؟ فهل هو كتاب فلسطيني فعلا؟ وأين هي الخصوصية الوطنية الفلسطينية بين الموضوعات؟ أما إذا ذهبنا للبعد الديني الذي تنحوه موضوعات الكتاب، فما دخل الطفل الفلسطيني بدرس حروب الردة؟ وهل الولاء السياسي الفلسطيني الحديث له علاقة بالولاء الديني؟
لقد تشكلت الدولة الوطنية الحديثة على ركيزتين أساسيتين الأولى هي التعليم الالزمي الذي شكل بوتقة الصهر وإعادة انتاج المواطنين، والثانية كانت الجيش. إن التعليم يطرح سؤال المستقبل الجمعي لا الماضي والتراث. وطالما أن مؤسستنا التعليمية ما تزال تضع تساؤل التعليم في إطار الماضي التراثي، هذا يعني أنها تعيد انتاج صراعات الماضي: الصراعات الطائفية والدينية الخ، وبالتالي تؤسس لانهيارات كبرى في المستقبل.
من ذكريات الحياة على كوكب اليمن
درستُ الصف الأول الابتدائي في مدرسة بغداد في مدينة رداع في البيضا، حينها لم يكن في الصف سوى كرسي واحد، أجلسوني عليه عدة أيام كوني كنت غريباً، “كان واضحاً أن هذا أيضاً شيء غريب!”، لم أكن الوحيد الذي لا يملك كتاباً بعد؛ اشتركت مع أربعة آخرين في كتاب اللغة العربية. وأذكرُ جيداً، عندما كنا ننظف الصفّ لم يكن في أيدينا سوى مقشّة “باب الحارة”. في ذلك الوقت، لم يكن هنالك زي مدرسي موّحد للطلبة، كنا نعرف تماماً أنه ليس غريباً ومستهجناً، لو نأتي الى الصف ببيجامة النوم، فقط، في الحالة التي نملكُ فيها سعرها.
في الصف الثاني الابتدائي حدث تطور مُلفِت، فقد أصبحتُ أقتسم كتاب اللغة العربية مع شخص واحد فقط: فصل لي وفصل له!. في أحد الايام، وربما كنّا في إجازة الفصل الدراسي الأول، عدت الى المدرسة، كنت منذهلاً تماماً باكتشافي التطور العجيب الذي لحق بالمدسة، يومها وضعوا لمبة إضاءة في الصف لوحدات من الجيش اليمني الذي كان ينام في المدرسة في أوقات المساء!
سمعت مؤخرا أن مدينة رداع أصبحت معقلا للقاعدة والتنظيمات المتشددة، بطبيعة الحال، لم يكن شيئاً مفاجئ، فوحل الفقر والاستبداد، حتماً لن ينجب إلا الدواعش والحوثيين!
التعليم في فلسطين أداة بناء أم هدم؟
تُجمع أحزاب الوسط العلماني واليسار الفلسطيني على أن المنهاج الفلسطيني الذي صيغ إبّان قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية، بعد توقيع اتفاق أوسلو، ودرّس لاحقا في مناطق حكم السلطة الفلسطينية، أنه منهاج محافظ تتقاطع فيه قيم المجتمع الذكوري البطرياركي “الأبوي” من جهة، مع قيم التراث الغيبي اللاعقلاني والأحادي من جهة ثانية، مع قيم الفردانية المُستلبة للآخر المستعمِر من جهة ثالثة ليشكل خليطا فريدا يكرّس ثقافة العجز والخضوع والحلول الغيبية والشعوذة، وليزيد من غربة الفلسطيني عن ذاته وإمكاناته العقلية، وعن مجتمعه ووطنه ودوره التغيري والتحرري. أما عن أساليب تدريس هذا المنهاج فتوظّف وسائل وأدوات تدور في فلك التلقين وتتمحور حول المدرّس، لتمنع الطالب عن إعمال العقل والتفكير النقدي والتجربة العملية فتزيد من كارثية المناهج القاتلة لأي بعد تحليلي ولتزيد من وطأة المأساة الثقافية عند الأجيال الصاعدة.
** ** ** ** **
فيبلغ التناقض أشدّه بين ما تدّعيه السلطة الفلسطينية من كونها صاحبة مشروع وطني ديمقراطي علماني يستند لمفاهيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الانسان ضمن نظام الدولة الحديثة، من جهة، وبين ما يكرّس فعلا وما تمارسه الجهات التنفيذية المخوّلة بإدارة العملية التعليمية كوزارة التربية والتعليم العالي من جهة ثانية. حيث نشاهد بأم أعيننا عملية ترسيخ الثقافة التقليدية المرتبطة بالذكورة والأبوية والقبلية. ومن المعلوم أن الثقافة البطرياركية “الأبوية” تسهم في عزل شرائح واسعة من المجتمع عن حقها في إدارة السلطة والموارد، فمن عزل المرأة لعزل الأجيال الشابة لعزل آخر يشمل كل من يفكر ويحمل وجهات نظر تقدمية، وصولا لعزل الغالبية الساحقة من الجماهير الشعبية. وهذا ما يظهر لنا في كتب المنهاج الدراسي حيث عظيم التبجيل للمجتمع الذكوري الأبوي الديني فبدلا من تشييد هوية الفرد في المجتمع على أساسات الحداثة والمواطنة والمساواة وحقوق الانسان يتم التركيز على التقسيمات الدينية والعرقية القروأوسطية وذلك باستدعاء الصراعات التاريخية بين المسلمين والصليبيين في كتب التاريخ. كما واستجداء الفتاوى الأكثر نكوصاً وتراجعاً لإضفاء الشرعية على ذكورة وأبوية المجتمع: فمن هو أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة، والمرأة ناقصة في العقل والدين، وستفسد الأمة إذا ما حكمتها امرأة، وأن الحدود الشرعية للمرأة في المشاركة السياسية تقتصر على البيعة لأمير المؤمنين وفي أحسن الأحوال تقديم المشورة له كما في كتب التربية الدينية.ويترتب على ذلك تعزيز الثقافة الأبوية والقبلية والذكورية السائدة.
** ** ** ** **
تنطلق وزارة التربية والتعليم العالي في فلسطين من رؤيا مفادها أهمية التمسّك بالتراث العربي الاسلامي باعتباره الامتداد الثقافي والحضاري للحاضر الفلسطيني والعربي، لكن عندما نفكّر بأهداف الوزارة أكثر نسأل: أي تراث تقصد وبأي تراث تتمسك؟ فالتاريخ العربي الاسلامي شهد التنوع والاختلاف من عهد المعتزلة إلي عهد السنة الأشاعرة مرورا بالشيعة والصوفية، واستمر بعهد الفلاسفة المثاليين منهم والماديين، وغيرهم. فماذا يترتب على اختيار هذا التاريخ دون غيره وهذا التراث دون سواه؟ والأمر الآخر كيف سيتم التعامل مع تراث الآخر؟ في هذا المضمار لا نكون قد ظلمنا الجهة التي أعدّت الكتب الدراسية إذا ما اتهمناها بالانتقائية والاستناد إلي النظرة الأحادية والمطلقة والغيبية. وهذا الذي نلمسه حين التنقل بين صفحات الكتب الدراسية في التاريخ واللغة العربية وتحديدا في التربية الاسلامية فمن المراجع الأكثر قتلاً للعقل والفكر والتساؤل، والتواريخ الأقل مصداقية والبعيدة كل البعد عن المنطق العقلي والمنهاج التاريخي الرصين، مرورا بسياسة التلفيق والتوفيق بين المتناقضات تبريرا للوضع السائد، وصولا لسيادة المنطق الغيبي الأسطوري على المنطق العقلي في التحليل. فعوضًا عن الاستعانة بفلاسفة التقدّم والعقل من تاريخنا العربي الاسلامي أمثال ابن رشد يتم تقديم شيوخ النقل والجمود حيث يهيمن ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومحمد رشيد رضا على فصل السير والتراجم في كتاب التربية الاسلامية لمرحلة الثانوية العامة على سبيل المثال. كما ويمارس الانتقاء والحجب والإقصاء للمراجع الفكرية والتاريخية المخالفة لتصورات الدعوة الدينية بصبغتها القدرية، فبدلا من كتاب علمي يدرّس أنماط التربية الدينية صيغ ليكون كتابا دعويا يدعو لقيم العجز والرضوخ: من ضرورة القبول بالحاكم ولو كان فاسقاً إلي رهن استمرار الإيمان بالبقاء تحت رعاية الإمام وولي الأمر. وصولا لتقديم الاقتصاد الرأسمالي بغلاف اسلامي أخلاقي في فقه المعاملات. ناهيك عن الحجر على الفلسفة وتدريسها، فلم يفرد لأم العلوم كتاب يحدّث عنها وعن تاريخها. أما في العلوم وعالم الطبيعة فالقوانين الفيزيائية والكيميائية قابلة للتجاوز مع تدخّل قوى الغيب والسحاب!
والنتيجة تأسيس منطق ذكوري أحادي تلفيقي مطلق يقبل بالخزعبلات ويركن للقدر، يعمل على تثبيت الواقع الطبقي السائد، ليكون المستفيد الأبرز من ذلك كلّه هم القلّة التي تتزعم السلطة والنفوذ في عالم الجماهير القابلة بالنصيب والمسبّحة بحمد الله!
** ** ** ** **
لم تكتف السلطة الفلسطينية بالامتثال والخضوع لمصالح القلّة الحاكمة داخلياً بل فاقمت ذلك بتبعية واستلاب آخر للخارج، وذلك بإتباعها للحلول الجاهزة وتقمّصها لطروحات الآخر المستعمِر بدون أدنى وعي بالسياق التاريخي لتطور المجتمعات الحديثة ولا بخصوصية التجربة الفلسطينية تحت الاحتلال. يتمظهر الاستلاب حين تمجّد الذات ثقافة الآخر وحين تسعى بكل إمكاناتها للاندماج والذوبان فيها، وهذا ما نراه جلياً في كتب المنهاج الدراسي الفلسطيني حيث يتم الترويج للتجربة الأمريكية بثقافتها الفردانية وطرحها الليبرالي الاجتماعي واقتصادها الرأسمالي وكأنها التجربة المثلى التي استطاعت أن تحقّق ذروة التقدّم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بفترة وجيزة، ليتبقى علينا محاكاة التجربة وتقمّصها كما والتغنّي بها. كل ذلك على حساب التفكير النقدي في التجربة الرأسمالية ومحدداتها التاريخية. وهذا الذي نلمسه في كتاب مادة القضايا المعاصرة لمرحلة الثانوية العامة. وهنا أسأل: هل فعلا الرأسمالية والسوق الحرّة هي الطريق الوحيد على درب التصنيع وبناء اقتصاد الدولة الحديثة؟ ولماذا عجزت شعوب العالم الثالث على مر عشرات السنوات السابقة من رأسمالية عن النهوض الاقتصادي والاجتماعي؟ وماذا بشأن التجارب الاقتصادية الأخرى كما في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا والتي هي أيضاً شقّت طريقها للتقدّم بدون الرأسمالية؟ ولماذا لا يتم التعاطي مع هذه التجارب إلا بوصفها نماذج استثنائية غير قابلة حتى للبحث؟ ويبقى السؤال الذي لطالما نبّه له الكثيرون: هل فعلاً يمكن تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية للدول النامية عن طريق توظيف سياسات السوق المفتوح في عالم هيمنة الامبريالية الأمريكية والشركات متعددة الجنسية؟ قد لا يعرف الطالب ابن المرحلة الاعدادية أو الثانوية بالغايات الخافية وراء النظام الاقتصادي القائم وأعمدته البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، لكنه وبكل تأكيد، يعايش الأزمة المالية الخانقة والتي تشتد عليه وعلى محيطه أكثر على مر السنين. ناهيك عن الخصوصية الفلسطينية في تجربة الهجرة والصراع مع الاحتلال الاسرائيلي، وتجربة سلطة الحكم الذاتي تحت الاحتلال.
أما على صعيد الطرح الليبرالي الثقافي والاجتماعي، فإن شكّل كتاب التربية المدنية تقدما نوعياً إذا ما قورن بكتاب التربية الدينية، في طرحه للديمقراطية والعلمنة وتعليم وعمل المرأة وتنظيم النسل وحرية الرأي إلخ، إلا أنه عمل على قولبت طرحه الديمقراطي والتحرري في صيغ تكرّس ما هو قائم لأصحاب السلطة والمال والنفوذ. فخرج بتوليفة غاية في التناقض تدّعي التماهي بين مبادئ الحكم الديمقراطي وبين الحكم على الأساس الديني، وساوى بين الديمقراطية وبين الشورى، وبين المواطنين في النظام المدني وبين الرعية في ظل أنظمة الحكم المطلق. فقدّم مغالطات مفاهيمية سيكون لها الأثر الكارثي على موقف الدارس من الحرية، والخطر الأهم على منطقه في المحاكمة العقلية للظواهر. كذلك لم تأت على نقد حقيقي للنظام الديمقراطي الليبرالي. والنقد هنا بمعنى تحليل الظاهرة في ضوء التجربة التاريخية وتظهير وإبراز لما في الموضوع من محاسن أو مساوئ. فعلى الرغم من أن الحرية الأمريكية تكفل لكل مواطن حق الترشح لكرسي الرئاسة، لكن واقعيا من هو الأمريكي الذي يستطيع ذلك خصوصاً إن لم يكن لديه من الدولارات مئات الملايين؟
** ** ** ** **
على الرغم من إدراك نخبنا الفلسطينية المتنورة والتقدمية لفداحة الأزمة التي يؤسس لها، بوعي أو بغير وعي، من قبل اللجنة المشرفة على إعداد المناهج الدراسية إلا أننا لم نسمع عن أي محاولة حقيقية لمسائلة هذه اللجنة على مر الحكومات التي تعاقبت على السلطة حتى الآن. كما لم تجرِ أي محاولة لتحليل هذه المناهج أو استشراف مخاطرها ومصائبها المستقبلية المدمّرة. حيث لم يتصدَ بالنقد والتحليل لهذا المنهاج أياً من الأحزاب التقدمية والعلمانية ولا مؤسسات المجتمع المدني. فهل هو غياب الوعي بحجم ودور وزارة كالتربية والتعليم والتي أقل ما يقال عنها أنها أحد أهم المحاور المفصلية في المجتمع؟ أم هي حالة التشظّي والوهن التي تصيب المجتمع المدني الفلسطيني عموما بأحزابه ومؤسساته؟ بل والأمر الذي يزيد فداحة المأساة أن الحزب الوحيد الذي أنجز قراءة نقدية للمنهاج الفلسطيني هو حزب التحرير -وهو حزب اسلامي يطالب بإقامة الخلافة – والذي خرج بنتائج تكفّر هذا المنهاج!
** ** ** ** **
من الواضح أن تمدد ظاهرة الأخونة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينات قد دفع بقيادة السلطة الفلسطينية الناشئة إلي التراجع عمّا كانت قد أقرّته منظمة التحرير الفلسطينية في وثيقة الاستقلال عام 1988 حيث نلحظ ولأول مرة الحديث عن أن الاسلام هو الدين الرسمي للدولة أو أن الشريعة الاسلامية مصدرا أساسياً للتشريع. وهنا أسجّل الخلاصة: إن حركة فتح التي تولّت الحكم الفعلي بعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ أوسلو مع الاحتلال الاسرائيلي، وعنيت بصياغة النظام الأساسي “الدستور” وكل المؤسسات السيادية الأخرى للسلطة قد صبغت المؤسسات الناشئة بالصبغة المحافظة والذاتية المستلبة للمستعمِر تماشياً مع إملاءات الاحتلال الاسرائيلي من جهة، ومجاراة لتصاعد التيار الديني المحافظ من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة تركيزا لهيمنة الطغمة المالية والسياسية الحاكمة. فتجاهلت السلطة دور التعليم والثقافة كرافعة لوعي الناس نحو التحرر المجتمعي والوطني، وعملت على النقيض بدفع لغة اللاعقل واللامنطق إلي الأمام بغية تثبيت قيم الخضوع والقبول بالأمر الواقع والقضاء والقدر. فمن تعزيز دور المختار إلي تعزيز الحلول البعيدة عن روح المواطنة والمرتبطة بالعلاقات الوشائجية وصولا إلي تعطيل العملية الديمقراطية في كافة أرجاء النـظام السياسي الفلسطيني.
الطفلة والعروسة
عندما يقوم الأهل في الأسرة باعطاء ابنتهم لعبة كعروسة أو أواني مطبخ، لا يكون هدفهم محصورا بتسلية البنت أو منحها مساحة لامضاء وقت فراغها فقط، بل يشمل ذلك أيضاً بث أفكار تعمل على تأنيث البنت وتحويلها لأنثى بالمعنى المجتمعي. فالدمية وأواني المطبخ لا تعني شيئاً آخر غير تحضير البنت لدورها ووظيفتها التي حددها لها المجتمع كأم ومربية أطفال وخادمة في المطبخ. إن أبرز خصائص الثقافة السائدة، والتي تحكم حياة الناس في المجتمع، وترسم الحدود، تتجلى في الواجبات المفروضة على الفرد. وتبقى الخطوة الأولى في سلّم الحرية الطويل والشاق، بوضع الوظيفة المعهودة من قبل المجتمع أمام التساؤل.
يجب الدفاع عن العلمانية
في محاضرة التاريخ الاسلامي في الجامعة، فُتح النقاش حول العلمانية. وقام أحد الطلبة الملتحين مردداً التعريف الشائع للعلمانية ” فصل الدين عن الحياة والمجتمع”، موضحاً أنها تتناقض بالضرورة مع الطبيعة الإنسانية، وحاجات المجتمع. وقد بدا التعريف لائقا ومقبولاً لدى أغلب الحاضرين، وكأنه الكلام الفصل! من هنا على وجه الخصوص كانت الضرورة لكتابة هذه المقالة؛ يجب الدفاع عن العلمانية.
إن التعريف الذي يدور حول فصل الدين عن الحياة هو تعريف مضلل. العلمانيون وحتى اللادينيين منهم، يدركون أن هذا النوع من الفصل غير وارد وغير ممكن، على الأقل في الافق المنظور من التاريخ البشري. وبالأساس من الذي يستطيع فصل الغيب والأسطورة وتلك التقاليد والعادات الموروثة عن حياة الناس في الحاضر؟
خلقت العلمانية عالماً يتسع للجميع، وأرست أساس الاحترام بين البشر بغض النظر عن الموروثات الثقافية السابقة ضمن الدولة الوطنية. بدولتهم الحديثة جعل العلمانيون المناسبات الدينية والطائفية، احتفالات وطنية لجميع المواطنين، حيث كفّت هذه المناسبات عن أن تثير حقد جماعة على أخرى، وصار المجموع الوطني يحيي هذه المناسبة كذكرى وطني جامعة (عيد رأس السنة الميلادية على سبيل المثال). العلمانية خطت بالعالم إلى الأمام بأن جعلت من المؤمن وغير المؤمن، انسانا يستحق أن يحيا الحياة التي يستحق.
تصاحب تأسيس الدولة الوطنية الحديثة، مع عمليات إنتاج جديدة للتاريخ انطلاقاً من نقطة بداية في الزمن، وذلك بهدف تجذير حضور الدولة وجعلها تبدو وكأنها كانت في الماضي كما هي الآن. آلية في الكتابة أعادت رسم حدود الجماعات المختلفة وكأنها جماعة واحد، مركزة على فترات التضامن بين الجماعات المختلفة، في الوقت الذي بترت فيه أحداث الصراعات واختصرتها. فإن كانت أعمدة القومية أسطورية الطابع ومتخيلة الأسس، فهي بالنهاية وظفت لتجتاز صراعات الماضي وتخلق الانسجام في الحاضر. “بعد انهيار الامبراطورية العثمانية اتضح لمواطني تركيا الحديثة أنهم في الحقيقة بيض آريون وأن أباءهم كانوا السامريين والحثيين…واعتبر مواطنو اليونان المعاصرة أنفسهم من نسل سقراط والاسكندر الأكبر، أو في رواية مقابلة وبديلة، اعتبروا أنفسهم الورثة الرسميين للامبراطورية البيزنطية!”(1). اليوناني اليوم يعرّف نفسه على أنه يوناني الانتماء، لا مسيحي ولا وثني، حتى وإن كانت ديناته التي يعتنقها بشدة هي المسيحية.
يفترض المدافعون عن الدولة الدينية أن الدين هو الأساس الأصلح لتقسيم الناس وتصنيفهم، فهذا مسلم وذاك غير مسلم، هذه أرض سلام وتلك أرض حرب. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤالان، الأول: كيف تنظم الدولة علاقاتها مع مواطنيها على اختلافاتهم، والثاني: ما هي علاقة الدولة ككل مع جيرانها؟ إذا ما اتخذت هذه الدولة الخيار الديني أو العرقي الخ، تبعاً لذلك، ما هو مصير الجماعات الدينية غير السائدة ، وغير المسيطرة، هل مصيرها الابادة الجامعية، وفي نفس السياق، هل سوف تكون العلاقة القائمة مع دول العالم علاقة حرب مفتوحة؟ وبالأساس في عهد القراءة والتأويل، هل هناك من يمتلك الحق في تحديد الانتماء للوطن تبعاً للموقف الفكري؟ ألا توجد خيارات أخرى؟! العلمانية هي الخيار.
في الشريعة الدينية تتجلى أحكام من قبيل: الجلد والرجم وقطع الرؤوس، ويطالب الحاكم (ولي الأمر وفق المفهوم الديني) بتطبيقها. وبالرغم من أنه يمكن تفسير ظهور هذه الشرائع في مرحلة من التاريخ البشري، إلا أن استمرار عليها رغم كل شيئ بعد ثورة المعرفة والعلم، وقيام الدولة العلمانية، أمر غير مبرر.
منحت الخبرة التاريخية التي مرت بها أوروبا حينما انتقلت من الدولة الدينية التي تحكمها الكنيسة، إلى الدولة الوطنية العلمانية درساً لا يقدر بثمن، للانسانية جمعاء. يقول المثل الشعبي “يلي بجرّب المجرّب عقله مخرّب” ومن يريد ان يعيد تجربة أوروبا التي قضى فيها الملايين على مذبح الدولة الدينية، وكأنه يطالبنا ان نُقدم على تجاهل عقولنا والانتحار بوجوه باسمة فداءً لجنونه! مع العلم أن هذا لا يعني انتفاء الكوارث في عالم ما بعد الدولة الدينية، ومع العلم ان البشرية دفعت الثمن الباهظ في الحروب العالمية الحديثة. وهذا أمر لا يجب ان نغفله أيضاً في قرائتنا للتجربة الأوروبية.
“إن الوقت من دم والتاريخ لا يرحم” والتاريخ لن يرحمنا إذا ما اكتفينا بترديد ما يطلبه الجمهور. بل فإن واجبنا التاريخي أن نتصدى للأفكار البائسة حتى وان كانت هي السائدة. الآلاف من شبابنا يذهبون نحو حتفهم بأن ينضموا للجماعات الجهادية التي لا نقتل فيها جميعاً بدون مبرر ولا سبب. فهل هو قدرنا؟ وهل نبقى مكتوفي الأيدي نتفرج على وسائل الاعلام ووزارات الاوقاف والتربية والتعليم والأحزاب الدينية وهي تضج نشازا وهمجية وتخلفا ودماً، حتى بدون ان ننطق ونعزف لحن الحياة والأمل والمستقبل الأفضل والعلمانية والديمقراطية؟
قراءة في المنطق الإسلامي السلفي، نحو ضرورة التحرر من الأصول
يتحدد المنطق الإسلامي السلفي بـ”سلطة النص”، حيث تُشكَّل مرجعية المسلم بـ القرآن والسنة والتاريخ الاسلامي. وأي خطوة نخطوها للأمام تحتاج منا العودة والتأسيس وهل من أساس أصلح من رسول وقدوة الإسلام محمد(ص)! فما أن نعلن عن البدء بالتفكير حتى نعود لهذه الأصول، ليس اعتباطاً وإنما انطلاقا من منطق أصولي نفترضه الأصح، يعطي للنص سلطة عليا تملكه الحقيقة المطلقة الصائبة والوحيدة. فالحقيقة هي التي بثها الله في خير عباده وهي مطلقة كونها تمتلك السحر الذي يفسر الوجود برمته. وبما أن النتيجة معطاة سلفا إذن فالطريق إلي معرفة الحقيقة هو الاستنباط، ويكون بالعودة للنص الذي تركه الله لعباده وهو القرآن المعجزة. أما السنة النبوية فهي ما تقرر من رسول الله من قول أو عمل أو تقرير، ولأنها فَسّرت كثيرا مما أوجزه الله في قرآنه كان لابد من أخذها أصلا ثانٍ بعده. أما كتب التاريخ فهي الشواهد التاريخية التي جرت بها الأحداث والبدايات القدسية الاسلامية. لكن وعندما نقوم بإجراء قراءة تاريخية لهذا النص سيتكشف لنا مدى مصداقيته أولا ومهمته الوظيفية في التاريخ العربي لإسلامي ثانياً.